للشعوب تواريخ تقام لها المواكب احتفالا والندوات تقييما والخطب افتخارا واعتبارا وتونس تستحضر هذه الايام تاريخين شاءت الاقدار ان تتقارب ذكراهما. فمن جهة ذكرى اشتعال جذوة النضال الوطني وتوقده بان نذر التونسيين انفسهم فداء للوطن اعلاء لرايته ورفعة له وفي قلوبهم خطت مطالب الحكومة الوطنية والبرلمان التونسي والغاء الامتيازات للمعمرين والمستعمرين. ومن جهة اخرى ذكرى انطفاء شعلة الحياة في جسد الزعيم الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية، «المجاهد الاكبر» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال خمسة عقود. ان ذكرى 9 افريل 1938 تتجاوز كونها يوم راحة استرجاعا للانفاس وسط الاسبوع او يوم عطلة طلبا للاسترخاء ليكون علامة تختزل معاني التضحية وبذل النفس الممهور بالدم الممتدة من 1881 الى 1956 والتي ساهم فيها الشباب والنساء، البدو والحضر، القبائل والعروش، النخب والحرفيين، كل بمقدار استطاعته، من دعم مالي او كتابة او توزيع مناشير تحريضية ضد المستعمر الفرنسي او ايواء «فلاقة» او التنظيم في حزب سياسي او نقابة عمالية او جمعية ثقافية من اهدافها السامية الاستقلال، او الدخول في العمل السري او المرور الى الكفاح المسلح. فذكرى 9 افريل برمزيتها تختزل الدم التونسي الموهوب دون حسابات اومطامح او مطامع طوال تسعة عقود 1881 1956 دفاعا عن ذاتية الشخصية التونسية من الذوبان والانتصار للاستقلال السياسي وبسط السيادة الكاملة على الارض وعلى الثروات. اما ذكرى 6 افريل 2000 فهي مناسبة لاستحضار مآثر رجل دولة استثنائي طبع الحياة السياسية الوطنية والدولية طوال خمسة عقود. فشخصيته الكاريزماتية كان باتريياركيا لجميع مناحي ومفاصل السياسة والاقتصاد، وضع تونس على درب الحداثة فجاءت المدونة القانونية للعائلة التونسية طلائعية وريادية يسندها تعليم عصري اجباري ومعمم تردفه تغطية صحية حافظة للنسل محددة له. ولم تذهب مقدرات الشعب التونسي «زمن بورقيبة» وقود مغامرات توسعية. نسب الزعيم كل النجاحات لنفسه فكان العامل الاول والرياضي الاول والسياسي الاول وعلق فشل او سوء تطبيق خيار اقتصادي (تجربة التعاضد) على شماعة بن صالح، وقدم المصمودي قربانا بعد تسرعه في مشروع الاندماج مع ليبيا ثم النكوص والتراجع. فتساقطت الضحايا بالمفهوم السياسي الواحدة تلو الاخرى. ولان الزعيم اراد الخلود في جسد يأبى ذلك، جسدا اقتطعت من حيويته المنافي وانهكته حيل السياسة وحبائلها واخذت منه سنوات الحكم كل مأخذ. تسلل الشرود عقل الزعيم واستحكمت في بدنه العلل فضاعت بوصلة الحكم وهيبة النظام تحت انظار «ترويكا فاسدة» وتحت وقع ضربات قرارات متضاربة صادرة عنه مؤذنة بسوء العاقبة ومهددة للسلم الاجتماعي. لقد جاء السابع من نوفمبر كلحظة انقاذ وحركة تصحيحية للانحرافات، وجدير بنا استحضار كون الرئيس زين العابدين بن علي جنب الوطن من السقوط في الهاوية، وجنب الحزب الاشتراكي الدستوري من ترهل خطابه وانقضاض القاعدة الشعبية من حوله، وجنب الزعيم من نهاية مذلة. لان العقل السياسي العربي وتطبيقاته تحفل بالتحولات الدموية حول سدة الحكم فمثلت تونس الاستثناء بسلاسة وهدوء ودستورية انتقال السلطة. منذ 22 سنة اعيد قراءة تاريخ الحركة الوطنية والاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها تونس «زمن بورقيبة» فنفض الغبار عن منسيي التاريخ الرسمي من مناضلين احباء منهم والاموات فاطلقت العنان للألسن ونشطت الذاكرة وحبرت الشهادات في مذكرات او «سيمينارات» فتلقف شباب اليوم بنهم ما خفي وما اخفي سابقا قسرا. فتعرفنا على خبايا المعارضة/ الفتنة اليوسفية، والمحاولة الانقلابية، وحركة «برسكتيف» وولجنا دسائس قصر «الامير الجمهوري». لم نكن نعلم الكثير عن محمود الماطري عن صالح بن يوسف، عن فرحات حشاد، عن الهادي شاكر، عن المنجي سليم، عن احمد بن صالح، عن الطيب المهيري، عن حسونة العياشي، عن ابراهيم طوبال، عن سليمان بن سليمان، عن جيلبار النقاش، عن نور الدين بن خذر، عن السعداوي ومثلهم كثيرون.. ولكن الفرصة الآن غدت مواتية بفضل الارادة السياسية وحركة التاريخ وبصرف النظر عما يحفل في بعض تلكم الروايات / الشهادات من تبرئة للذمة وتضخيم للذات الراوية/ الشاهدة حينما اقرأ دعوة امين عام لحزب حاكم منظوري ومنتسبي الحزب للحضور يوم الثامن من افريل في اطار منتدى الفكر السياسي للاستماع الى محاضرة بمناسبة ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة وذكرى احداث 9 افريل 1938 يطمئن قلبي على ان الوفاء ركن مكين في السياسة التونسية.