مثل كل القمم انتهت قمة الحلف الاطلسي المنعقدة نهاية الاسبوع ولاول مرة بالاشتراك بين دولتين وهي فرنسا والمانيا العدوين السابقين والحليفين الاستراتيجيين بصدور بيان ختامي اشتمل على اثنتين وستين نقطة موزعة على ثلاث عشرة صفحة كانت اطولها تلك المتعلقة بالوضع في افغانستان ضمنها قادة الحلف الاطلسي المتوسع باعضائه الثمانية والعشرين بعد اعلان انضمام البانيا وكرواتيا رسميا وعودة فرنسا الى القيادة العسكرية المشتركة بعد ثلاثة واربعين عاما على قرار ديغول بالانسحاب اتفاقهم بشان الامين العام الجديد للحلف ليكشف بذلك عن الاستراتيجية الامنية الجديدة للناتو في مواجهة مختلف تحديات القرن الواحد والعشرين بمختلف مصادرها فضلا عن التزامات الحلف الجديدة بارسال المزيد من القوات الى افغانستان لتدريب القوات الافغانية وتاهيلها واعتماد استراتيجية تجمع بين الحل السياسي والاجتماعي والعسكري لاعادة تنظيم المشهد الافغاني ربما تمهيدا لمخرج من المستنقع الافغاني المستمر منذ ثماني سنوات إثر الاجتياح الامريكي لهذا البلد عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر كل ذلك طبعا الى جانب التاكيد على اهمية الحوار مع روسيا والمصالح المشتركة مع هذا البلد كحليف استراتيجي في افغانستان والدور المرتقب لايران الجار الاستراتيجي للعراق وافغانستان. كثيرة ومتنوعة اذن كانت النقاط التي حملها البيان الذي عكس بوضوح نوايا ومواقف الرئيس الامريكي الجديد باراك اوباما في معركته في افغانستان التي لم تخلو من محاولات لدغدغة القادة الاوروبيين بهدف اقناعهم بضرورة اقتسام الحمل الثقيل المتوراث في افغانستان والذي يزداد ثقلا امام امتداد المخاطر والتحديات الى الجار الباكستاني. ومن العلاقات بين الاطلسي واوروبا الى انتشار الحلف من منطقة البلقان والبحر الاسود الى القرن الافريقي وحوض المتوسط فان وجود الحلف الاطلسي يكاد يكون في مختلف انحاء العالم في مهمات تحمل عناوين مختلفة تمتد من مكافة الارهاب وملاحقة فلول القاعدة الى التصدي للقرصنة وتامين مصادر الطاقة والتحولات المناخية. ولعل في التخمة المسجلة بشان القمم المتكررة التي جمعت قادة العالم وتزامن قمة الناتو مع قمة مجموعة العشرين بلندن ومن قبلها قمة لاهاي الخاصة بافغانستان ومنها الى القمة الاوروبية الامريكية في براغ فحوار الحضارات والاديان في اسطنبول تبدو الاحداث في ترابط مثير بما يجعل الامر اعقد مما قد يبدو ذلك ان الابتسامات التي تظهر على الوجوه خلال الصور العائلية غالبا ما تخفي ورائها الكثير من التعقيدات والتحديات والاختلافات التي سرعان ما تكشفها الاحداث والتطورات المتلاحقة... بعد ستين عاما الاطلسي ومهمة القضاء على عدو بلا هوية من شان المتتبع لاحداث قمة الناتو ان يدرك دون عناء ان مسالة التحديات الامنية للقرن الواحد والعشرين ظلت تتكرر في مداخلات مختلف زعماء قادة الحلف الاطلسي المجتمعين بين مدينتي سترازبورغ الفرنسية وكيهل الالمانية اللتين يفصل بينهما جسر لا يتجاوز طوله اربعين كيلومترا وهي بذلك لا تختلف عما تكرر في اخر قمة حضرها الرئيس بوش العام الماضي في بوخاريست برومانيا، ولكن الواقع ايضا ورغم التوافق في المصطلحات من شانه ان يؤشر إلى تحول في اكثر من جانب في استراتيجية الحلف اكدها حضور الرئيس اوباما الذي فرض وجوده على القمة واستاثر مع زوجته ميشال بالانتباه بما جعل الصحف الفرنسية تشير في اكثر من موقع الى غيرة نظيره ومضيفه الفرنسي نيكولا ساركوزي من حجم شعبية الرئيس الامريكي في اوروبا حتى ان صحيفة لوجور دي ديمانش le jour de dimanche لم تتردد غداة القمة في اختيار عنوان مثير في صفحتها الاولى "اوباما الاوروبي" Obama l'européen بسبب الاستقبالات الشعبية التي حظي بها الرئيس الامريكي في فرنسا والمانيا في جولته الاولى من نوعها الى القارة الاوروبية منذ انتخابه حتى انه بدا وكانه يواصل حملته الانتخابية بين الاوروبيين فيما تحدثت صحف اخرى عن ظاهرة اوباما او ما اسمته ب"اوبامانيا" في اوروبا. وبرغم المظاهرات الاحتجاجية التي تحولت في احيان كثيرة الى مواجهات دموية اقرب الى ما يحدث في دول العالم الثالث ورغم كل الانتقادات الموجهة لمنظمة الحلف الاطلسي كآلة عسكرية نافذة هدفها تحقيق المصالح الامريكية ورغم كل التحركات المناهضة لوجود الحلف الاطلسي وكل الاصوات التي دعت الى حل الناتو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب الخطر الشيوعي رغم كل ذلك فقد ظهرت خلال القمة مؤشرات متعددة من شانها ان ترجح لتغييرات واصلاحات محتملة في اجهزة الحلف كما في اهدافه وفي خياراته وهي اشارات اتضحت اكثر مع تصريحات الرئيس الامريكي باراك اوباما الذي بدا اكثر انفتاحا على العالم واقل تصلفا وغطرسة من سلفه جورج بوش الذي جعل امريكا تتفرد في اتخاذ قرارات مصيرية دون العودة الى الشرعية الدولية وقد اختار اوباما ان يكون صريحا مع حلفائه الاوروبيين وان يبدي استعداده لاقتسام اعباء وتكاليف الحرب في افغانستان التي انهكت الادارة الامريكية ماليا وعسكريا وكلفت مصداقيتها وصورتها الكثير بين شعوب العالم وقد شدد اوباما خلال القمة في مخاطبته للزعماء الاوروبيين على ان خطر القاعدة اقرب الى اوروبا منه الى امريكا في محاولة لشحذ عزيمة القادة الاوروبيين باتجاه ارسال المزيد من التعزيزات الى افغانستان وهي دعوة لم تجد لها اصداء واسعة رغم الاعلان عن ارسال خمسة الاف جندي اضافي الى افغانستان مع تمسك فرنسا والمانيا واسبانيا بعدم تعزيز وجودها في افغانستان وتاكيد تلك الدول على ان دورها هناك في اطار تدريب وتاهيل القوات الافغانية والمساعدة على اجراء الانتخابات الافغانية وربما كان اوباما الذي اعلن في وقت سابق عن ارسال سبعة عشر الفا من القوات الامريكية الى افغانستان الخروج باكثر من هذا الرقم المتواضع مقارنة بحجم القوات الامريكية التي تناهز الستين الفا في ذلك البلد. ويبدو حتى الان ان الحلف الاطلسي الذي اهمل في مهمته في افغانستان الجانب الانساني والاجتماعي ادرك متاخرا انه لن يتمكن من تحقيق القليل او الكثير بالاعتماد على قوة السلاح للقضاء على طالبان وان كسب الراي العام الافغاني ليس بالامر الهين في بلد استعصى على امبراطوريات سبقت امريكا اليه وخرجت مهزومة وكان اخر تلك الامبراطوريات الاتحاد السوفياتي الذي احيى قبل ايام الذكرى العشرين لانسحابه من افغانستان وقد قبرت طموحاته والكثير من قواته وعتاده هناك. مطلوب خطة للخروج من افغانستان... ويبدو ان حرص الرئيس الامريكي الذي رفع شعار التغيير خلال حملته الانتخابية الرئاسية قد نجح في استمالة الراي العام الاوروبي في لقائه الخاص مع نحو ثلاثة الاف من الشباب الفرنسي حيث لم يتخل عن خطابه الذي اختارالترويج لنظام عالمي جديد اكثر مصالحة مع الاخرين واختار بذلك المقاطعة على الاقل في خطاباته وتوجهاته مع سياسات سلفه التي اثارت غضب واستياء الراي العام الدولي خاصة بعد الحرب على العراق وافغانستان. قبل ستين عاما وعند تاسيسه كانت مهمة الحلف الاطلسي تتمثل في تطويق الخطر السوفياتي وحلف فرصوفيا والدفاع عن الدول الاعضاء داخل حدوده الا انه ومنذ سقوط جدار برلين وما تلاه من تحولات دولية متسارعة باتت مهمة الحلف الاطلسي مرتبطة بالقضاء على الارهاب بما يعني ملاحقة عدو بلا هوية ولاحدود وبما يمنح الحلف التدخل كيفما شاء واينما شاء وهو الامر الذي يبدو انه كلف الاطلسي الكثير حتى الان دون تحقيق الاهداف المطلوبة. ولعل في خارطة الطريق التي تقدم بها الرئيس الامريكي في اطار الحرب المعلنة في افغانستان منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية والتي حازت قبول وتاييد الحلفاء الاوروبيين من شانها ان تعكس رغبة في اعادة النظر في الملف الافغاني بما يمنح الادارة الامريكية فرصة التقاط الانفاس والتخلص من بعض الاعباء الثقيلة ماليا وعسكريا وبشريا في مرحلة تواجه فيه مختلف اقتصاديات العالم ازمة مالية خانقة. صحيح ان اوباما زعيم الدولة الاقوى في العالم قد تحدث الى نظرائه بخطاب مختلف وانه اشاد بعودة فرنسا الى قيادة الاطلسي ورفع صوته ليطالب بشراكة مختلفة مع بقية شعوب العالم بعيدا عن التفرد والغطرسة وربما تكون في الدعوة التي وجهها الرئيس اوباما لعالم خال من الاسلحة النووية ما يمكن ان يؤشر بدوره الى تغيير في التوجه الامريكي بزعامة الديموقراطيين الجدد ولكن الحقيقة ان هذه الدعوة تبقى مثيرة للكثير من نقاط الاستفهام امام اصرار سيد البيت الابيض الجديد بميولاته السلمية على التمسك بنشر الصواريخ الامريكية في تشيكيا وبولونيا تحت ذريعة وجود الخطر الايراني. وفي انتظار قمة لشبونة العام القادم فان الاكيد ان ما تضمنه البيان الختامي لقمة الحلف الاطلسي ستبقى عالقة في انتظار الاختبار الاكبر وهو الاختبار الميداني لكسب المعركة الحقيقية في افغانستان وتجنيب الشعب الافغاني المزيد من الماسي تحت وقع القنابل اليومية لقوات لاطلسي...