«الفيتو» سيستمر لكن مفعوله سيتقلص في غضون ال20 عاما القادمة تونس/الصباح: ألقى الدكتور دارم البصّام، كبير المستشارين لدى برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، محاضرة على منبر «خيمة الفكر السعودي» بمقر سفارة المملكة العربية السعودية، تمحورت حول موضوع «إصلاح مؤسسات الأممالمتحدة في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية الراهنة»، وذلك بحضور عدد من الديبلوماسيين والمثقفين والإعلاميين... الدكتور البصّام، بدا مستوعبا مسار تطور الأممالمتحدة والتحوّلات التي عرفتها منذ تأسيسها نهاية الأربعينات من القرن المنقضي - لذلك كان عرضه منهجيا وممتعا في آن معا.. الفرصة الضائعة .. ومنذ البداية، أقر كبير مستشاري الأممالمتحدة، بوجود توافق من قبل الجميع حول إصلاح المنظمة الأممية، لكنه اعتبر أن الخلافات تتمحور حول منهجية الإصلاح وأولوياته، مشددا على أن «هذا المعمار، يحتاج إلى إعادة هيكلة وليس إلى مجرد الترميم».. وأوضح أن العالم شهد تغيرات جيواستراتيجية هامّة، وحقائق جديدة، إذ لم يعد هناك شرق وغرب، بل شمال وجنوب، وهذه المعادلة الجديدة تعني، فيما تعنيه، نهاية الحرب الباردة، ونهاية الثنائية القطبية، وولادة الأحادية القطبية بزعامة الولاياتالمتحدة ومنافسة أوروبية واضحة.. واعتبر الدكتور البصّام، أن المنظمة الأممية، أضاعت فرصة مهمة كان يمكن أن تؤدي إلى ولادة نظام عالمي جديد، وهي الفترة ما بين العامين 1985 و1989، أي ما بين انتهاء الحرب الباردة، ونهاية الرئيس السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، في تلك اللحظة كان من الممكن الانتقال من «توازن القوى» إلى منطق «توازن المصالح»... واستعرض في هذا السياق، بعض الأحداث المهمة التي شهدها العالم آنذاك، بينها حسم الصراعات والحروب في أنغولا وكمبوديا وأفغانستان، وظهور «القبعات الزرقاء» (في إشارة إلى القوات الأممية) التي انتشرت في كل مكان غير آمن، غير أن ذلك لم يستمر طويلا، إذ بمجرد سقوط الاتحاد السوفياتي، أعلنت القوى الجديدة، بأن هذه الانعطافة التاريخية في صالحها، ونشطت العديد من التنظيرات الفكرية والسياسية التي تبشّر بولادة الليبرالية الجديدة (Neo-libéralisme) وشاعت بين الأوساط الدولية، مقولة نهاية التاريخ، واعتقد الغرب (الأمريكي) أن العالم يمكن أن يسير بقدم واحدة، لكن ذلك كان غير ممكن إطلاقا، لذلك استمر الوضع لمدة لم تتجاوز العشرين عاما، تبيّن فيما بعد أن خيار «تعدد الأقطاب» هو الحل لمشكلات العالم، وهو ما جعل النداءات من أجل العودة إلى «التعددية القطبية»، تتعالى بكثافة من مصادر جغراسياسية مختلفة... فاعلون جدد... وقال الدكتور دارم البصّام، أن المشهد الدولي، عرف بروز فاعلين جدد (الصين والبرازيل والهند)، التي من المتوقع - وفق المحاضر - أن يكون لها دور مستقبلي فاعل.. بالإضافة إلى مجموعة العشرين التي تضم المكوّنات الأوسع للقوى المؤثرة في العالم، إلى جانب وجود مؤشرات حقيقية لتراجع الليبرالية ممثلة في النموذج التاتشري (نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارغوريت تاتشر) والريغاني (نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن)، وذلك في مقابل الحرص على العودة إلى الدولة، خاصة فيما يتعلق بدورها الاقتصادي والتنموي والمالي.. وأشار كبير المستشارين في الأممالمتحدة (وهو سعودي الجنسية ومقيم بتونس منذ نحو 23 عاما)، إلى أن بعض الكتابات الغربية، تحدثت في الآونة الأخيرة - في سياق رصد تراجع النهج الليبرالي أمريكيا - إلى أن الولاياتالمتحدة تتخذ إجراءات اشتراكية حاليا، وهي ظاهرة جديدة، تؤشر لوجود تغيّر حقيقي في نماذج التنمية على الصعيد الدولي.. وأوضح أنّ ثمّة مقاربات جديدة لموضوع التنمية، لم تتبلور بشكل نهائي، لكنها ستتمخض عن مدارس فكرية، تماما مثلما حصل إبان الأزمة الاقتصادية في ثلاثينات القرن المنصرم، حيث نشأت المدرسة الكنزية، معتبرا أن هذه التصورات والمقاربات الجديدة، ستنعكس بالضرورة على الإصلاحات التي يتعيّن إدخالها على المؤسسات المالية الدولية وعلى المنظمة الأممية. الخلاف حول (الأمن الجماعي).. وتطرق الدكتور البصّام إلى المسار الذي شهدته المنظمة الأممية منذ بدايات تشكلها.. فقد اختزلت المنظمة في مفهوم «الأمن الجماعي» وكان ميثاقها ترجمة لهذا المفهوم، ما جعل الدكتور فاضل الجمالي يصفه ب«المثالي» ليقينه بصعوبة تطبيقه واتخاذه عنوانا لتحركات المجتمع الدولي.. ولهذا السبب، شهد العالم في تلك الفترة خلافات عميقة في المقاربات السياسية والأمنية، أدت إلى تحالفات، ولدت من أرحامها (النيتو) وحلف (وارسو)، وكانت حرب فيتنام، التعبيرة العملية لعدم توفر وفاق دولي صلب المنتظم الأممي، بشأن مفهوم الأمن الجماعي، ما أدى إلى فشله وتعثّره. ولم تصح الأممالمتحدة، إلاّ عندما مسك (همرشولد) بزمامها، حيث سارع إلى تعويض مفهوم «الأمن الجماعي» بمقترح القوات الخاصة للأمم المتحدة «التي ستعرف لاحقا بقوات حفظ السلام الدولية».. وألمح الى بعض التغييرات التي شهدتها المنظمة الأممية في هذه الفترة، لكنها «كانت وظيفية» على حدّ تعبيره، أي إنها لم تمس الخيارات والسياسات والتوجهات والهيكلة.. ومع إطلالة السبعينات من القرن المنقضي، ظهرت «مجموعة 77» التي عرفت لاحقا بمجموعة «عدم الانحياز»، ضمن سياق مواجهة الغرب والتقليل من تغوّله.. وبالفعل، عملت هذه المجموعة على التأثير في بعض التوجهات الأساسية، وكان موضوع قوات حفظ السلام هو المدخل، حيث اعترضت (عدم الانحياز) على الخلفية التي أثمرت هذا المقترح، على أساس أنّ دول العالم الثالث ليست هي المتسببة - بالضرورة - في المشكلات الدولية، بل يمكن أن تكون ضحية لبعض الصراعات الدولية في «العالم المتقدم». مرحلة «الجنرال» غالي.. ولم يخف المحاضر، الدور الذي حاول الأمين العام، بطرس بطرس غالي أن يلعبه خلال ترؤسه للمنظمة الأممية، حيث عمل على إنقاذ هذه المؤسسة، والانتقال بها من مرحلة «حفظ السلام» إلى سياق جديد عنوانه «صنع السلام».. لكن المحاضر الذي بدا مختلفا مع توجهات «الجنرال»، كما يلقب في الأممالمتحدة، قال إن بطرس غالي لم يتعرّض خلال فترة ولايته إلى المادة 43 من ميثاق الأممالمتحدة، التي ينصّ على «إنشاء جيش دولي على نحو دائم وثابت» في المنظمة الأممية، فهو لم يعدّل هذه المادة، ولكنه لم يكرّسها عمليا، على الرغم من قناعته بضرورة «أن تكون للأمم المتحدة أنياب».. وهكذا، انتهت حقبة «الجنرال غالي» بصدام مع الولاياتالمتحدة، على خلفية تقرير قانا في لبنان، ما أدى إلى مغادرته المنتظم الأممي.. واعتبر الدكتور دارم البصّام، أن كوفي عنان، الذي خلف بطرس غالي، كان أكثر الأمناء العامين إصلاحا للأمم المتحدة، وذلك عبر المشروع الذي أطلقه خلال فترة توليه الأمانة العامة تحت عنوان «من أجل حرية أوسع».. ووصف المحاضر هذا المشروع بكونه «يقف على قدمين»: قدم اقتصادية تمثلت في (أهداف الألفية للتنمية) التي أطلقتها الأممالمتحدة، وباتت عنوانا لمشروعات التنمية في العالم، وقدم سياسية، حملت عنوان (الأمن الجماعي وإصلاح الأممالمتحدة).. ويتشكل هذا المشروع من 100 نقطة، لكن تمت معارضة مفاصل كثيرة منه، بينها رفض الدول الغنية تخصيص 7% من ناتجها المحلي الإجمالي للتنمية الدولية، وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، وموضوع الإرهاب ومسألة نزع السلاح وغيرها، وهي المسائل التي أثارت جدلا وتحفظات من الدول الكبرى، ما أدى إلى سحبها وتعطيلها.. لكن البصّام لم يخف جهود كوفي عنان، معتبرا أن تدرجه في المسؤولية صلب المنظمة الأممية، باعتباره ابن المبنى الأهم في نيويورك، على حدّ وصفه، ساهم في نجاحه في وضع المنظمة على سكة جديدة بفضل الإصلاحات التي أدخلها على هيكلية الأممالمتحدة.. مستقبل إصلاح المنظمة.. وتساءل المحاضر في أعقاب ذلك، عن مستقبل إصلاح المنظمة في ضوء الأزمات الاقتصادية والسياسية الراهنة في العالم. وهل يمكن للأزمة المالية العالمية الحالية، الآخذة في التفاقم، أن تؤدّي إلى انعطافة وتغيرات في المنظومة الدولية؟ وإلى أيّ مدى يمكن لهذه الأزمة أن تؤدي إلى استفاقة جوهرية بصدد مفاهيمنا للتنمية ولأدوار المؤسسات المالية العالمية؟ وتوقف الأستاذ البصّام في هذا السياق، عند الخطاب الأمريكي الجديد، الذي قال إنه «ليس للاستهلاك السياسي، بقدر ما هو ثقافة أمريكية سياسية جديدة»، ما يعني أنها مؤشرات لتحول نوعي في سياسات الولاياتالمتحدة خلال الفترة المقبلة، معتبرا أن الاختيار على باراك أوباما باعتبار لونه وموطنه الأصلي، دليل على وجود تغيّر في المجتمع الأمريكي، وإيذان بمرحلة جديدة هناك.. ومن هنا تخلص الدكتور دارم البصّام، لطرح رؤيته الاستشرافية لمستقبل الأممالمتحدة.. واعتبر في هذا الإطار، أنّ هذه الرؤية تنقسم إلى مستويين: * منظور قصير المدى، يستوجب توسيع العضوية في مجلس الأمن باتجاه البرازيل والهند، اللذين عبّرا عن رغبتهما في دخول المجلس، سيما وهما مدرستا اعتدال في كلّ من أمريكا الجنوبية وآسيا.. لكنه تساءل قائلا: هل هذا التوسع كاف؟ وماذا بوسع البرازيل والهند أن يغيّرا من سياق المنتظم الأممي؟ قبل أن يضيف بأن الحاجة ماسة إلى إيجاد صيغ لجعل دخول الهند والبرازيل فعالا.. وأشار في هذا السياق إلى ظهور أصوات، يدعو بعضها إلى تمديد فترة رئيس مجلس الأمن (شهر حاليا) حتى يكون أكثر قدرة على التأثير في جلساته، فيما يدعو آخرون إلى إيجاد صيغة جديدة لمحاضر مجلس الأمن، بحيث تعكس المناقشات والآراء التي تتمخض عنها الجلسات.. وتحدث عن (تقرير الإبراهيمي)، كما بات يسمى في الأممالمتحدة (نسبة إلى الديبلوماسي الجزائري، الأخضر الإبراهيمي)، الذي عهد إليه بترؤس لجنة للبحث في أسباب فشل مجلس الأمن في حلّ الصراعات الدولية.. وقال إن هذا التقرير وضع الإصبع على الداء حقيقة، من خلال الإشارة إلى أن التقارير التي تصل مجلس الأمن حول الصراعات الدولية، تعكس (ما يحب المجلس أن يسمعه عنها، وليس ما يجب أن يسمعه)، في إشارة إلى غياب الدقة في نقل الوقائع، ما أثر على أداء مجلس الأمن وأفشل تدخلاته في أكثر من صراع دولي.. ملامح أساسية .. * منظور بعيد المدى، أسسه الدكتور دارم البصّام على وقع النقاط التالية: 1 - أن الناتج المحلي الإجمالي في آسيا سيكون الأكبر عالميا في المستقبل، ما ستكون له تداعيات سياسية، وهو ما سوف يتسبب في نقلة نوعية في المشهد العالمي.. 2 - سيناريو اعتماد ثلاث سلطات صلب الأممالمتحدة هي: مجلس الأمن (السلطة التنفيذية)، والجمعية العامة (السلطة التشريعية)، ومحكمة العدل الدولية (السلطة القضائية).. 3 - اعتماد مجلس أمن اقتصادي في موازاة مجلس الأمن السياسي، وهو المقترح الذي تقدم به الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، ويعتبر المحاضر أن هذا السيناريو ممكن مستقبلا. 4 - لن يتم إلغاء نظام الفيتو في مجلس الأمن،.. وجوابا على سؤال «الصباح»، حول الجدوى من أية تغييرات أو تعديلات على المنظمة الأممية في ظل استمرار هيمنة (الدول الكبرى) بواسطة استخدام (حق النقض/الفيتو)، قال المحاضر، إن حق الفيتو سيبقى لفترة طويلة أخرى، مشيرا إلى أنه من الصعب على الدول الكبرى أن تتخلّى عن هذه الآلية ما دامت تمكنها من أن تتحكم في العالم، لكنه لاحظ أن حق الفيتو سيضعف في غضون السنوات العشرين القادمة، خصوصا في ضوء وجود السلط الثلاث الجديدة، مضيفا: «اعتقادي، لن ينتهي دور الفيتو إلا عبر إيجاد بديل».. 5 - سيتم الرجوع مجددا لنموذج الرفاه الأوروبي، على الرغم مما لحقه من انتكاس على عهد تاتشر وريغن.. 6 - أن سيناريو إصلاح الأممالمتحدة، يبقى رهن القوة الآسيوية، وهو يحتاج إلى بعض الوقت... واعتبر أن الصين «التي تسير حاليا على خطى الرأسمالية بشكل حثيث»، ستكون قوة مهمة في المستقبل.. وشدد الباحث والمحاضر في ختام مداخلته، التي قدم لها السفير السعودي بتونس، سعادة الدكتور، إبراهيم السعد البراهيم، على أن «البديل نحو نظام عالمي جديد، يكمن في عودة آسيا وبروزها في المستقبل المنظور».