موفى أفريل: تسجيل فائض بالميزان التجاري الغذائي بقيمة 1.350 مليار دينار    وزير الرياضة يعلن عن قرار هام..#خبر_عاجل    قفصة: تسجيل رجة أرضية بالسند    مجلس عمداء المحامين يدعو رئيس الجمهورية إلى اتخاذ اجراءات    الترجي والإفريقي في نهائي بطولة تونس لكرة اليد    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    عاجل : منحرف خطير يروع المارة في قبضة أمن الملاسين    في ذكرى النكبة: تونس تجدّد دعمها اللامشروط للشعب الفلسطيني    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    يشكّل تهديدا للنمّو.. الصين تسجّل فائضا قياسيّا بملايين المساكن    الكشف عن شبكات إتّجار بالمواد المخدّرة تنشط بولايات تونس الكبرى    قابس : عدد أضاحي العيد غير كاف والحل في التوريد    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    بسبب لقطة غير لائقة من الجمهور في مباراة الترجي والنجم: التلفزة التونسية تفتح تحقيق..    مكثر: وفاة شاب واصابة 5 أشخاص في حادث مرور    رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو يتعرّض لإطلاق نار بعد اجتماع الحكومة    نابل: الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلط وجبر الأضرار جراء تضرر الصابة    القصر: وقفة احتجاجية على خلفيّة حادث وفاة تلميذتين    وزير السياحة يؤكد لمستثمرين كويتيين الاستعداد لتقديم الإحاطة اللازمة لتطوير استثماراتهم في تونس    فاجعة: جريمة قتل شنيعة تهز هذه المنطقة..    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    عاجل/ متابعة: هذه التهم الموجهة لبرهان بسيس والزغيدي والعقوبة التي تنتظرهما..!!    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    القلعة الخصبة: انطلاق فعاليات الدورة 25 لشهر التراث    الدورة ال3 لمهرجان جربة تونس للسينما العربية من 20 إلى 25 جوان 2024    ينتحل صفة موظف للداخلية و يجمع التبرعات لفائدة شهداء المؤسسة الأمنية ...ما القصة ؟    في هذه المنطقة: كلغ لحم ''العلّوش'' ب30 دينار    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    الترجي الرياضي: تواصل التحضيرات .. وكاردوزو يفرض "الويكلو"    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الخامسة إيابا من مرحلة تفادي النزول    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    أصحاب المخابز يُطالبون بصرف مستحقّاتهم لدى الدولة    في مسابقة طريفة بصفاقس.. صناع الخبز يتنافسون على نيل شرف أفضل صانع خبز !    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    في يومها العالمي.. الشروع في اعداد استراتيجية وطنية جديدة للنهوض بالأسرة    ارتفاع عدد قتلى جنود الإحتلال إلى 621    عاجل/ مع انتهاء آجال الاحتفاظ: هذا ما كشفه محامي مراد الزغيدي..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    الكاف: حريق اندلع بمعمل الطماطم ماالقصة ؟    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لكل منظومة ميدانها الذي تتحرك فيه ومجالها المختبر ومنهجها المعتبر وافقها المنتظر فلا تجانس ولا تداخل ولا التباس ولا تطفل من إحداهما على الأخرى
بيان حول الدرس الحضاري في التكوين والبحث العلمي (3/3)
نشر في الصباح يوم 02 - 08 - 2009

في الجزء الأول و الثّاني من مقال الأستاذ توفيق بن عامر الذي أراده أن يكون بيانا لهويّة الدّرس الحضاري بالجامعة التّونسيّة ضبط هويّة هذا الاختصاص مضمونا ومنهجا ويتعرّض في الجزء الثّالث و الأخير إلى تصحيح العلاقة بين الدّرس الحضاري ومنظومة اللغات و تصحيح العلاقة بين هذا الاختصاص ومنظومتي العلوم الإنسانية والدينية
ولنشرع أولا في تصحيح العلاقة بين الدرس الحضاري ومنظومة اللغات والآداب مذكرين في مستهل هذا التصحيح بتاريخ تلك العلاقة الضارب في القدم لا فقط على الصعيدين المفاهيمي والوقائعي إذ لا معنى ولا قيام لحضارات دون لغات وآداب وتلك حقائق تندرج في أقدم القدم وإنما على الصعيد التربوي والبيداغوجي أيضا وهو ما يندرج في أقدم أطوار الحداثة التربوية والتعليمية ويشي حتما بعراقة هذا الاختصاص من زاوية نظر تاريخية إذ تعود نشأته إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما ظهرت أول نواة للدراسات العربية بالجامعات الأوربية ثم ترسّخت مناهجها شيئا فشيئا حتى اتخذت شكلها النهائي في الأنموذج الدراسي بجامعة السوربون الفرنسية. وهو الأنموذج الذي أعطى لتلك الدراسات العربية بعدها الثلاثي الأركان: ركن اللغة وركن الأدب وركن الحضارة انطلاقا من الاقتناع بالعلاقة العضوية بين الدراسات الحضارية والدراسات اللغوية والأدبية التي لا يمكن أن تكون بمعزل عن الإطار الحضاري الذي نشأت وتطورت فيه. كما أن الدراسات الحضارية لا يمكن أن تقصي اللغة والأدب من اهتماماتها. و قد كان الحرص في كل ذلك على شمول التكوين وتكامله في هذا المجال. نعم ...كان هناك تفكير أيضا في المتلقي الأوروبي واهتمام بتقديم صورة متكاملة له عن الثقافة العربية بتراثها المتنوع. لكن هذا الاهتمام لا يزيدنا إلا تأكدا من ضرورة تكامل الصورة في ذهن المتلقي لاسيما إذا كان هو المعني بهذه الثقافة وذلك التراث أولا وأساسا.
وقد كان ذلك الإطار الحضاري بخصائصه الوظيفية التي أوضحناها متنوع المواد والمقررات إذ اشتمل تارة على العقيدة والفكر وطورا على التاريخ والمؤسسات وخضعت كل تلك المجالات الدراسية لمناهج البحث العلمي الحديث شانها في ذلك شان الدراسات اللغوية والأدبية. لقد حدث كل ذلك قبل نشأة الجامعة التونسية الحديثة ولما كان الرعيل الأول من المؤسسين لتلك الجامعة قد تكونوا في رحاب الجامعات الأوروبية ولاسيما جامعة السوربون الفرنسية فقد حرصوا على توطين ذلك الأنموذج الدراسي الحديث بالجامعة التونسية منذ تأسيسها وبرهنوا على اقتناعهم بنجاعة ذلك المنهج الدراسي وبالعلاقة العضوية بين الدراسات اللغوية والأدبية والدراسات الحضارية. وبناء على ذلك الاقتناع تم إرساء المناهج الدراسية في أقسام اللغات والآداب بمختلف أنواعها ولاسيما العربية والفرنسية والإنكليزية على ذلك الأساس الثلاثي الأبعاد مع مراعاة التساوي بين تلك الأبعاد. إذ خضع نظام الإجازة الأولى الذي استمر العمل به طيلة ما ينيف على عقد من الزمن لذلك المبدأ. وقد تجلى ذلك في حسن توزيع المواد الثلاث على السنوات الثلاث التي كانت تتشكل منها تلك الإجازة. فكانت الغلبة في السنة الأولى للدراسات الحضارية وفي السنة الثانية لعلوم اللغة وفي السنة الثالثة للدراسات الأدبية مما لا يدع مجالا للشك في اعتبار الاختصاصات الثلاثة من صميم التكوين الأساسي لتلك الإجازة. وهكذا يتضح أن الدراسات الحضارية في أقسام اللغات والآداب لم تكن في وضعها الأصلي من قبيل المواد التكميلية في مجال التكوين ولا مما يمكن الاستغناء عنه من مواد اختيارية بل هي ركن أساسي من أركان ذلك التكوين. وإذا ما حدث أن حادت بعض التنقيحات المجراة على ذلك الأنموذج الأصلي عن المبادئ والخيارات التأسيسية لآي اعتبار من الاعتبارات فينبغي أن تراجع لان ذلك الحياد لا يمكن أن يؤدي إلا إلى ضرب من الخلل في التكوين جراء التنكر للغايات والأهداف التي يرمي إليها ونعني هنا بالحياد عن الأنموذج الأصلي ما يمكن آن يعتري الدرس الحضاري في تلك المنظومة من حالتي التقلص أو التضخم وان كان طروء الأولى على بعض التنقيحات قد حال حتما دون توقع طروء الثانية. ومع ذلك فقد ساور البعض توجس من اتساع دائرة الاهتمام بهذا المجال الدراسي واعتبروه نوعا من التضخم الذي يمكن أن يشكل حيادا عن الخيارات الأصلية ومما دعاهم إلى هذا التوجس ثم الاحتراس ما شوهد في العقدين الأخيرين من وفرة في عدد المهتمين بهذا الدرس والمقبلين على اختياره مجالا للبحث والاختصاص. وهو توجس واحتراس في غير محله لما فيه من خلط بين مبدأين أساسيين لا تقاطع بينهما ولا يمكن أن يعتبر أحدهما على حساب الآخر. ونعني بهما أولا مبدأ اعتبار الجامعة فضاء لنشر المعرفة مفتوحا للجميع تلقى فيه الدروس على من يطلبها و تسند الشهادات إلى من يستحقها وتلك وظيفة كل الجامعات دون استثناء. وثانيا مبدأ احترام خصوصيات نظم الدراسات داخل الأقسام والشعب العلمية وفق الحصص والنسب والاختصاصات المحددة والتزود لتلك الحاجات بالكفاءات المطلوبة. فهذان المبدآن لا يتعارضان مهما كانت الشعبة ومهما كان الاختصاص ولا يمكن لأحدهما أن يدخل الضيم على الآخر.
صلة الحضارة بالعلوم الإنسانية والدينية
ونأتي الآن إلى تصحيح العلاقة بين هذا الاختصاص ومنظومتي العلوم الإنسانية والدينية إذ يفهم من نص السؤال المطروح أن الدرس الحضاري قد اعتبر ملتبسا بهما أو متداخلا معهما أو متطفلا عليهما مما ينزع عنه صفة الاختصاص. أما وقد تأكدت تلك الصفة بعد ما ذكرنا فلا بد من رفع ذلك الالتباس ودرء تلك الشبهة. ولنبدأ في ذلك بالتذكير بما كنا أشرنا إليه سابقا من أن الدرس الحضاري في منظومة اللغات والآداب لا يهتم بالعلوم الإنسانية لذاتها ولا يدعي الاختصاص فيها ولا يتخذها هدفا في مجال البحث أو التدريس فيجادل في مفاهيمها أو يعمد إلى مناقشة نظرياتها أو يسعى إلى تطوير مناهجها وتهذيب نتائجها لان ذلك هو شأن المختصين فيها ود يدنهم ومدار اهتمامهم لا ينازعهم فيه منازع. وإنما ينحصر اهتمامه في الاستفادة من ثمرات تلك العلوم ومكتسباتها ونتائجها في تحليله وتقويمه للتراث فيعمل على توظيفها لفهمه ويتخذ منها معايير لضبط قيمته. وهذا ضرب من التقاطع بين الاختصاصات إذ كل اختصاص يحتاج إلى توظيف مكتسبات اختصاصات أخرى دون أن يحل محلها وهذا هو معنى التقاطع الضروري بينها ولا يعد ذلك من قبيل التداخل أو الالتباس أو التطفل وإنما يندرج في إطار الاستفادة والاقتباس لمهمة عملية مخصوصة. فالتقاطع بين الدرس الحضاري وتلك العلوم هو في إطار الاضطلاع بتلك المهمة التي يمكن أن نصفها في هذا السياق بكونها مهمة منهجية تطبيقية.
بينما يرتكز اهتمام المختصين في تلك العلوم على أبعادها النظرية والمعرفية تعمقا وتحليلا وإضافة وإذا ما استدعى الاختصاص معاضدة النظرية بالتجربة كان اللجوء عادة إلى الاختبارات الميدانية كما هو الشأن بالنسبة إلى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية ... وغيرها من العلوم التي لم تتخذ من التراث ميدان اختبار وتجريب إلا لماما لأنه ليس من اهتماماتها وقس على ذلك علوما أخرى كالأنثربولوجيا واللإبستيمولوجيا وكذلك العلوم الصحيحة بمختلف فروعها لأنها إما مستخلصة للتنظير المجرد أو مضطرة للاشتغال على بيئات ومواد مختلفة ومتنوعة حتى تضمن الحد الأقصى من النّجاعة والمصداقية ولم يكن التوظيف التراثي أو الاقتصار والتركيز على بيئة معينة ليحقق لها من كل ذلك ما تطمح إليه. وهكذا يظل مجال التوظيف المشار إليه من اختصاص دارس الحضارة. فالمسالة تتعلق إذن بفارق دقيق يتمثل في تنوع مجال الاهتمام وفي مدى التركيز على صنف محدد من التراث والإنتاج المعرفي ونحن لا ندعي مع ذلك تفرد منظومة الآداب حصريا بهذا الاختصاص إذ نجده قد استكمل شروطه كذلك في بعض فروع ومسالك المنظومات الأخرى ونعني بها تلك التي لم تقتصر على مجالها المعرفي النظري وحتى العملي العام وإنما أولت اهتماما بجوانب محددة من المجال الحضاري العربي والإسلامي وأتقنت مداخله وعالجته من منظور اهتماماتها الخاصة وبمناهج اختصاصها وتبرزت فيه و أبدعت من البحوث والدراسات ما شكل علامات مضيئة في تاريخ الدراسات الحضارية ومن الأمثلة الساطعة والشواهد القاطعة على ذلك ما أنجزته أقسام التاريخ لاسيما في المناحي المادية والمؤسسية لهذه الحضارة وأقسام الفلسفة التي اهتمت خاصة بالمناحي الفكرية وبالتراث الفلسفي العربي والإسلامي وكذلك أقسام العلوم الطبية التي أولت عناية بالتراث الطبي العربي والإسلامي وغيرها من الشواهد والأمثلة. ولعل العبرة من كل ذلك كامنة في التأكد من المنافع المعرفية الجمة الناجمة عن وجود معابر بين مختلف الاختصاصات لاسيما في مستويات عليا من الدراسات الجامعية ومدارج راقية من مسالك البحث العلمي.
تلك هي طبيعة العلاقة بين الدرس الحضاري ومنظومة العلوم الإنسانية أما فيما يتصل بعلاقته بمنظومة العلوم الدينية فتجدر الإشارة إلى انه ليس دخيلا عليها لان التراث الديني هو ركن أساسي من أركان التراث الحضاري العام ولذلك لا يعتبر المهتمون به في منظومة اللغات والآداب دخلاء أو متطفلين عليه هذا فضلا عن كونه قد مثل جزءا من تكوينهم الأساسي في مختلف المراحل الدراسية أحرزوا فيه على شهادات عليا شانهم في ذلك شان المهتمين به في منظومة العلوم الدينية. لكن الذي ينبغي الإقرار به فيما نحن بصدده من بيان العلاقة بين المنظومتين هو اشتراكهما في الاشتغال على تراث واحد مما يوهم بالتداخل بين اختصاصين أو بتطفل أحدهما على الآخر بينما الأمر خلاف ذلك لان اشتراك اختصاصين في بعد واحد من أبعاد الاختصاص دون سائرها وهو التمثل هنا في مجال العمل وفي المادة موضوع الدرس لا يفضي حتما إلى التجانس بينهما لان في سائر الأبعاد ما هو كفيل بالفصل والتمييز بينهما.والواقع أن المنظومتين تختلفان رغم وحدة المجال في المنطلقات والمناهج والوظائف والغايات وان كان كل منهما يؤدي مهمته ويضطلع بما اعد له على أحسن وجه.
فمنطلق الدرس الحضاري في منظومة الآداب هو اعتبار المسالة الدينية ظاهرة حضارية تدرس كغيرها من الظواهر الحضارية الأخرى واعتبار منزلة العقل فوق منزلة المقدس نصا كان أو طقسا أو اعتقادا واعتبار العقل مؤهلا للخوض في المقدس وتحليل مقوماته والعمل على تقويمه. والنظر إلى التراث الديني على انه جزء من التراث الثقافي والاجتماعي والمادي والحضاري العام. وذلك انطلاقا من الفصل المنهجي لغايات علمية موضوعية وليس بالضرورة لخيارات عقائدية بين قضية الإيمان والتدين وقضايا الرصيد المعرفي والفكري في أبعاده وحدوده وكيفية تفاعله مع الظروف والأوضاع التي أنتجته ومدى صلاحيته أو عدمها خارج تلك الظروف والأوضاع ولاسيما بالنسبة إلى البيئات المعرفية والحضارية الراهنة. بينما منطلق الدرس الديني في منظومة العلوم الدينية هو التسليم بعلوية المسالة الدينية على غيرها من الظواهر الثقافية باعتبار مصدرها المفارق واعتبار منزلة المقدس فوق منزلة العقل نصا كان أو طقسا أو تعبدا ولا يمكن وصفه إلا بما وصف به نفسه ولا مجال لاختراقه بحال. والموازاة بين الإيمان والمعرفة في تناغم خطي لا نشاز فيه ودراسة الرصيد المعرفي والفكري لذاته دراسة نظرية باعتباره ممثلا لعلوم منتهية ومتعالية على الأوضاع التي أنتجتها.أما تقويم ذلك الرصيد فيجري استنادا إلى المقارنة بين أجزائه وأطواره وأصوله وفروعه من داخل المنظومة الدينية لا من خارجها لان الغاية المرسومة هي التخصص في تلك العلوم وليس في أبعادها التاريخية وانعكاساتها الحضارية.
ولا ينحصر الاختلاف بين المنظومتين في المنطلقات فحسب وإنما يمتد ليشمل مناهج التحليل وأساليب المعالجة. وهو أمر طبيعي لان كل منهج هو مشدود بين طرفين: المنطلقات من ناحية والغايات من ناحية أخرى ولما كانت المنطلقات على النحو الذي ذكرنا من الاختلاف كان الاختلاف في المنهج بالتبعية لضرورة الملاءمة بينه وبين كل نوع منها. ولذلك كان القائمون على الدرس الحضاري لا يألون جهدا في البحث عن المقاربات النقدية المبتكرة والمناهج العلمية المستحدثة لا يعنينا في ذلك سوى عموم التوجه دون حالات الاستثناء فهم يحاورون التراث على غرار تلك المقاربات والمناهج ويستنطقونه على ضوئها فمن منهج لساني إلي منهج تاريخا ني إلى أنثروبولوجي إلى تأويلي فلسفي إلى اجتماعي نفسي إلى أسلوبي إحصائي إلى سيميائي رمزي.... إلى غير ذلك من الأساليب المنهجية المتطورة. وهم يذهبون في توظيفها إلى المدى الذي تسمح به دون تدخل من قبلهم بآراء أو مواقف مسبقة حتى تفضي بهم إلى نتائج قد لا تكون أحيانا متوقعة وقد تثور لها ثائرة الكثيرين استغرابا وإنكارا لأنّهم لم يعتادوها ولأنها تخالف بعض المسلمات المستقرة في اعتقادهم والسائدة في ثقافتهم. ولكنها مع ذلك حقائق أدى إليها الدرس المنهجي وأوقف عليها البحث العلمي. أما القائمون على الدرس الديني في منظومة العلوم الدينية فإنهم غالبا ما يتوخون في الدرس منهجا آخر ويتجهون في البحث وجهة أخرى ولا يعنينا في ذلك سوى عموم التوجه لا حالات الاستثناء ذلك أنهم يدرسون التراث الديني لذاته لا لغاية تتجاوزه كتقويم المسار الثقافي والحضاري العام مثلما هو الشأن في منظومة الآداب فيولون الأهمية القصوى للتعمق في التراث والإحاطة بأصوله وفروعه وتقليبه على شتى وجوهه والوقوف على دقائقه ويجتهدون في تحليل مضامينه وفق وجهة نظر اصحابه من العلماء ويعرضون محتوياته بأمانة علمية وهم في هذا ذوو اختصاص قد لا يدانيهم فيه أحد. وليس معنى ذلك أنهم لا ينتهجون سبل النقد ولا يتعاطون مع المناهج الحديثة بلى إنهم منفتحون عليها وساعون إلى الأخذ بأسبابها لاسيما بعد تعصير مقررات المنظومة وتطويرها لكن الخصوصية المنهجية تبقى مع ذلك قائمة ومستندة في المقاربة النقدية إلى معايير التراث نفسه في دوائر محددة ترعى المنطلقات وتتناول الفروع دون الأصول وفي التوظيف المنهجي ولاسيما المقارني إلى رصد ما يعزز المنظومة ويتجاوب معها وتفادي خيار التوظيف بإطلاق. وتلك هي الوظيفة الأصلية للمعاهد والمؤسسات الدينية في مختلف أنحاء العالم.
وهكذا يتضح أن لكل منظومة ميدانها الذي تتحرك فيه ومجالها المختبر ومنهجها المعتبر وافقها المنتظر فلا تجانس ولا تداخل ولا التباس ولا تطفل من إحداهما على الأخرى لكن هذا التقابل لا يعني التدابر ولا يلغي استفادة كل طرف من الآخر وتبادل الخبرات بينهما والاقتباس من مكتسبات كل منهما وذلك هو معنى التقاطع الضروري بين الاختصاصات والانفتاح على بعضها بعضا في تضافر بين جهود المختصين حرصا من جميعهم على الاقتراب من الحقيقة التي قد لا يدركها أحد. ولسنا في حاجة إلى التذكير بان من شروط ذلك التضافر في هذا السياق الذي نحن بصدد التمييز فيه بين المنظومة الحضارية ومنظومة العلوم الدينية احتراس إحداهما من السقوط في الدغمائية والانغلاق والتراجع عن الأخذ بأسباب الفكر الحداثي وتوقي الثانية من النزعة الاستفزازية باسم علمانية مناضلة وهي نزعة لا جدوى منها ولا تؤول إلا إلى البحث عن الشهرة الزائفة وانسداد الأفق وانقطاع الحوار بينما الجدوى كامنة في بناء علمانية راشدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.