من المهم جدا أن يستند العمل الثقافي إلى رؤية واستراتيجية، تتقاطعان مع تطلعات المجتمع وتحدياته وطبيعة المسار الثقافي الحاصل والمنشود معا. لذلك لا معنى لأي عمل ثقافي مهما كان نوعه إذا كان يخلو من رؤية واضحة ونابعة عن هضم حقيقي لماهية الثقافة بشكل عام. فالاحتفال بمئوية أبي القاسم الشابي أمر لا يكتسي في ظاهره أهمية بالغة باعتبار أن قراء الشابي يحتفون بشاعرهم بشكل مستمر وهو حاضر بيننا رمزا ودليلا على خصوبة المجتمع التونسي وقدرته في انتاج الثمرات طيبة الأثر. ولكن يصبح لحدث المئوية وزنا ثقافيا كبيرا وعظيما، عندما يتم استثمار بريق الشابي ودلالات تجربته الشعرية والنثرية والنقدية في مراكز اهتمام مجتمعية رئيسة. ولعل اختيار وزارة الثقافة والمحافظة على التراث والمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ''بيت الحكمة'' التركيز على الشباب المبدع في اختتام مائوية الشابي مسألة هامة تنضوي ضمن رؤية دقيقة تعي أهدافها، دون أن ننسى أن منطلق هذه الرؤية ذاته يُكسبها المشروعية اللازمة باعتبار أن المحتفى به أي الشابي هو مبدع أغدق على الثقافة التونسية وهو في عز شبابه وفارق الشعر والحياة وهو في سن أقل من خمسة وعشرين عاما. فالشابي الشاعر الشاب ورمز المبدع الشاب الجدي والجريء والحر والثائر والذي ينتصر لقيم التجديد ضد الجمود والتقليد، هو القنديل الذي من المجدي جدا اعتماده في مقاربة الفكر والإبداع التونسيين. من هذا المنطلق تصبح الرؤية التي رأت في مئوية الشابي احتفالا بالشباب التونسي المبدع،هي رؤية تصب في صميم التطلعات الصائبة وتستجيب لمنطق العقل الثقافي الحكيم. إن تفكير الأطراف القائمة على تظاهرة ''في حداثة الشابي''التي ستلتئم بداية من اليوم ب''بيت الحكمة'' في إقامة معرض للفن التشكيلي حول الشابي، بإمضاء طلبة معهد الفنون الجميلة بتونس والذين تجاوز عددهم الستين طالبا، نقطة لافتة وجديرة بالانتباه، خصوصا أن هذه الأعمال هي لمن سيؤثثون في المستقبل القريب المشهد التشكيلي التونسي ولعله من المثير للفضول أن نتعرف إلى رؤيتهم لأشعار الشابي وكيفية تفاعلهم معها تشكيليا. كما أن فكرة إحداث جائزة الشابي ل''بيت الحكمة'' للشعراء الشبان لا تخلو من تحفيز لمهجة الشعراء الشبان ومن توفير فرصة استثنائية إعلاميا وثقافيا لمزيد تكريسهم والإعلان عنهم شعراء في سماء الشعر التونسي خصوصا أن الجائزة لائقة ماديا وذات مصداقية أدبية وثقافية من جهة المؤسسة المعلنة عنها. بل أن الاقتداء برؤية شبابية مدروسة، قد انسحب في جزء منه حتى على طريقة التفكير في الندوة، فكان الحرص واضحا على منح الفرصة لبعض الباحثين الجامعيين ''الشباب'' حتى يدلوا بدلوهم في مقاربة تجربة الشابي خصوصا أن من شروط نجاح أي ندوة هي الظفر بمقاربات جديدة ومختلفة، وهي مسألة أكثر من طبيعية ومن حق كل جيل علمي ونقدي أن يقدم أطروحاته في خصوص رموز الثقافة والأدب الذي ينتمي إليه. طبعا التشبيب لا يعني البتة القطع مع المؤسسين وأصحاب المساهمات التاريخية والثقافية الهامة بل المطلوب هو التوفيق في الجمع بين الجيلين في أي عمل ثقافي على نحو يُظهر عراقة الفعل الثقافي واستمراريته في نفس الوقت وأغلب الظن أن تكريم فضيلة الشابي ومحيي الدين خريف يندرج في إطار التعاطي الذي يتسم بالاحترام والاعتراف دون أن ننسى أن تظاهرة ثقافية واحدة لا تستطيع أن تحتفي بكل الشباب المبدع ولا أن تكرم كل من أغدق على الثقافة وهي نقطة ايجابية لصالح ثقافتنا وتدل على أن اللامعين كثر. من جهة أخر، نعتقد أن الحديث عن حداثة الشابي حافز للتعمق فعليا في قيم الحداثة بشكل عام ونسأل أنفسنا بشكل صريح: أين نحن من حقيقة الحداثة وهل نحن من حيث أنماط التفكير والسلوك نجسد تعاليمها أم نحاربها صمتا ونعلن عكس ذلك؟ آخر الكلام كُلُّ شيء، على ما أَرُومهُ. وَمع ذلكَ، لَسْتُ مُطمئنَّةً كالأشياءِ. فِي البَارِحَةِ، وَأَنَا أُمَارِسُ مَوتِي، رَأَيْتُنِي وسطَ زَحمةِ الوُجوهِ أَمُرُّ بصعوبةٍ أُخْفِي وَجهِي فِي رَاحتَيَّ وَتَرْتَطِمُ كتفايَ، من وراءِ الدَّانتال المخمورِ بِقبضةِ الأشْيَاءِ. وَرغْمَ حِرْصِي البُولِيسيِّ علَى السَّيْرِ فِي الجهةِ المُخصصةِ لِلْمُتَرَجِّلينَ فَإِنَّ رِيحًا، تَنُوبُنِي فِي الطُّمأنينةِ، كَانَتْ تَدْفَعُ بِي إلى حَيثُ الشبِّاكُ المُمْتلئةُ بِالرُّؤَى الصَّادِقةِ. (من مجموعة ''يُؤنثني مرتين'' الصادرة عن دار سيراس)