تونس الصباح عندما قال لي الموسيقار محمّد القرفي وأنا أحاوره : يمكنك أن تقول عني إني أبو القاسم الشابي في الموسيقى التونسية، تذكرت ما قاله لي السينمائي فريد بوغدير ذات مرة من أنه كان يعتبر نفسه زبير التركي في السينما التونسية.. وإذا كان فريد بوغدير قد فسر وقتها قوله ذلك بأنه يصور في أفلامه بفنية عالية كل ما هو «أشكال» ورموز تونسية صميمة (الأبواب، البيوت، الفضاء، الإنسان، الألوان، اللغة...)، تمامًا مثلما يفعل زبير التركي في لوحاته، فماذا عسى الموسيقار محمّد القرفي يكون يقصد من وراء قوله بأنه يعتبر نفسه «أبو القاسم الشابي في الموسيقى التونسية»؟! الإجابة عن هذا السؤال وغيره تقرؤونها ضمن هذا الحوار.. يبدو أنك لا تريد أن تكتفي بصفة موسيقار وتسعى إلى إضافة صفة باحث في الموسيقى وفي تاريخ الموسيقى العربية والعالمية؟ إدا كنت تشير إلى مجموعة الكتب والدراسات التي صدرت لي وستصدر في مجال تاريخ الموسيقى العربية والعالمية مثل كتاب «موسيقى وفرجة» الصادر بتاريخ أفريل 2009 عن دار «لامارتان» الفرنسية أو كتاب «صفحات من الموسيقى العالمية» الصادر بتونس سنة 1977 الذي قدم له الموسيقار منصور الرحباني، فها أنا أعلم «الصباح» حصريًا بأن كتابًا جديدًا سيصدر لي خلال شهر نوفمبر القادم بمناسبة الدورة الجديدة لأيام قرطاج المسرحية عنوانه «المسرح الموسيقي في تونس»، وفيه محاولة لرصد معالم الحركة الموسيقية ودلالاتها التي وقعت في المسرح التونسي، القديم منه والحديث.. صالح المهدي قد أخطأ لو تزيد وتخص «الصباح» بمزيد التفاصيل عن مضمون الكتاب؟ هو «نبش» في تاريخية ظهور المسرح الغنائي في تونس وتطوره، وقبله في مصر وكيف أن المسرح الغنائي في تونس الذي ظهر أول ما ظهر على يد الموسيقار سيد شطا، ظل محاكٍ بالكامل للتجربة المصرية في هذا المجال.. لك مؤاخذات على ما يبدو على أداء واختيارات الموسيقار صالح المهدي، الذي يعتبر أحد الرموز التاريخيين للحركة الموسيقية في تونس.. ففِيم تتمثل هذه المؤاخذات ولماذا؟ أنا أعتبر أن الموسيقار صالح المهدي، عبر مسيرته في التسيير والإدارة، ومن خلال اختياراته، قد أخطأ مرتين في حق الموسيقى التونسية.. أخطأ عندما ركز على مبدإ وعنصر المحافظة المطلقة ومحاربة أي توجه تحديثي في مجال الموسيقى التونسية والنشاط الموسيقي.. فهو ومن خلال شعار المحافظة على التراث الموسيقي أخذ يحارب ويقصي كل بوادر محاولات التحديث والاجتهاد والإضافة في مجال الموسيقى التونسية وقد ظل يفعل ذلك على مدى سنوات طوال.. وأخطأ مرة أخرى في حق الموسيقى التونسية عندما جعل من تعليم الموسيقى في تونس مناهج وهيكلة تعليما متخلفًا مقارنة حتى ببعض البلدان العربية الأخرى وخاصة على مستوى مدة الدراسة و«نوعية» المدرسين، وخاصة منهم الأجانب المنتدبين للتدريس.. هذا عن صالح المهدي من وجهة نظرك طبعًا فماذا عنك أنت وعن توجهك الموسيقي؟ توجهي الموسيقي معلن بوضوح تام وتعكسه مساهماتي ومواقفي.. فأنا صاحب توجه تحديثي، ويمكنك هنا أن تعتبرني «أبو القاسم الشابي» في مسيرة الموسيقى التونسية المعاصرة، فمثلما حاول الشابي أن يكون مجددًا في عصره ومختلفًا في خطابه الشعري وتقدميًا إصلاحيًا في مواقفه ومستشرفًا للمستقبل ومنفتحًا.. فأنا بدوري أسعى وأجتهد وأصر على أن أكون كذلك في عصري هذا.. فالموسيقى عندي ليست ترفًا فكريًا أو إبداعيًا، بل أعتبر أن لها وظيفة اجتماعية وتاريخية.. القرفي والتغريب عفوًا، أستاذ القرفي.. لأن البعض لا يراك من خلال أعمالك على هذه الصورة، ويعتبر أنك متغرب في موسيقاك واختياراتك؟ ذلك هو قدر المجتهدين في كل المجالات عبر التاريخ.. قدرهم أن يفهمهم الناس (العامة) خطأ.. فكيف أكون تغريبيًا مثلاً وتوجهي الموسيقي قد أعلن عن عروبته إن صح التعبير منذ أول مجموعة موسيقية أسستها بتاريخ 1971 وحملت عنوان «أوركسترا 71 للموسيقى العربية» ومن خلالها حاولت تقديم تخت موسيقي (أوركسترا) متعدد ومتنوع الآلات من أجل موسيقى عربية غير تقليدية.. وهنا أريد أن أؤكد بأنني لا أدعي فلسفة ولا ريادة في هذا المجال، فمحاولات التحديث في الموسيقى العربية بدأت منذ أوائل القرن الماضي مع بداية ظهور فكر النهضة وهو فكر أساسه الأخذ بالمعارف والفنون الإنشائية والانفتاح عليها دون التنصل من الهوية.. ثم كيف أكون أنا محمّد القرفي تغريبيًا في توجهاتي الموسيقية والفكرية والحضارية وأنا أول موسيقي تونسي طرح القضية الفلسطينية من خلال مغناة «من ديوان الوطن المحتل» (افتتحت مهرجان الحمامات الدولي دورة 1977) واشتملت على أغان وقراءات شعرية.. فعلت هذا قبل أن يفعله حتى مارسيل خليفة.. ثم ألست أنا مؤلف وواضع موسيقى «الغصون الحمر»، التراجيديا الغنائية التي عرضت سنة 1979 وموضوعها النكبة الفلسطينية كذلك؟! أيضًا أنا صاحب أول مغناة درامية عن شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي (نوفمبر 1980) التي أخرجها المسرحي البشير الدريسي.. صيحة الفزع طيّب أنت كل هذا.. ولكن دعنا من هذا، لو سألتك مثلاً بماذا تريد أن يذكرك الناس والنقاد تحديدًا فماذا تقول؟ أريد أن يذكرني الناس والنقاد بأنني المؤسس الفعلي للمسرح الغنائي الحديث في تونس وهو مسرح غنائي تونسي ليست له علاقة بالنموذج المصري القديم في هذا المجال.. كما أريد أن يذكرني الناس والنقاد بأنني صاحب سلسلة عروض «زخارف عربية» الشهيرة التي أردتها أن تكون «صيحة فزع» تنبه الجمهور العربي إلى ضرورة وواجب الانتباه إلى كنوز تراثه الموسيقي العربي في وقت أصبح فيه هذا الجمهور يدير ظهره لهذا التراث ويقبل على إنتاجات غنائية وموسيقية تافهة، وفي أحسن الأحوال هجينة.. أستاذ القرفي.. أريدك أن تصارح قراء «الصباح» بعد كل هذه التجربة وأنت في هذه السن، وعلى هذا المستوى الرفيع من الثقافة الموسيقية أكاديميًا، التي يشهد لك بها أعداؤك قبل أصدقائك.. هل تشعر بالمرارة؟ هل تشعر بانك مهضوم الجانب ومهمّش؟ لا يمكن ابدا أن تنتابني مشاعر من هذا القبيل.. فانا أدرى بنفسي وأعرف طبيعة مساهماتي في المجال الموسيقي إبداعيًا ومعرفيًا.. كما أنني أميز جيدًا وأعرف حقيقة إمكانيات كل العاملين في المجال الموسيقي من إداريين وأساتذة ومبدعين.. ولكنني مع ذلك أشعر أحيانًا بأن هناك من يعمل بالفعل من أجل تغييبي وإقصائي وإلا ماذا يعني ألا تقع دعوتي إلى جلسات أشغال المجلس الدولي للموسيقى المنعقد ببلادنا هذه الأيام والذي يتواصل إلى غاية اليوم (الأحد 18 أكتوبر)؟ لكل هؤلاء أقول إن محمّد القرفي سيظل موجودًا بالقوة وبالفعل طبعًا بالمعنى الفلسفي للعبارة حتى لا يذهب في ظن من لا يفهم في الفلسفة ومصطلحاتها أنني أقصد بكلمة «القوة» العنف!