تونس الصباح مساء الأحد الماضي ووسط حضور جماهيري كثيف نسبيا من حيث العدد اتيحت الفرصة من جديد للموسيقار محمد القرفي لكي يُجرّب مرة اخرى «حظه» وحظ توجهه الموسيقي في «التواصل» مباشرة مع الجمهور في اطار حفل جماهيري عام بما يعنيه ذلك من محاذير و«مخاطرة» خاصة بالنسبة لموسيقار يريد أن يكون «مجددا» في خطابه الموسيقي.. المناسبة كانت السهرة الختامية للدورة 44 لمهرجان قرطاج الدولي.. اما العرض فكان بعنوان «يا ليل يا قمر» وقد جمع له الاستاذ محمد القرفي مجموعة من العازفين والمطربين يتقدمهم الرباعي صلاح مصباح ونور الدين الباجي ودرصاف الحمداني وأماني السويسي.. توجه مخصوص والموسيقيار محمد القرفي هو أحد الذين عُرفوا منذ مطلع ثمانينات القرن المنقضي بتوجههم التجديدي ومحاولة صياغة خطاب موسيقي غنائي معاصر وذي خصوصية يكون ثمرة «بحث» ودراية وإلمام علمي ب«الطبيعة» الكونية والانسانية للموسيقى بعيدا عن الفلكلوريات و«الشوفينية» الفنية والتقوقع واوهام «الانتماء» الثقافي بمفهومه الانعزالي الضيق. ولقد كانت مجمل عروض واعمال هذا الموسيقيار سواء منها تلك التي صاغ مادتها الموسيقية بالكامل او وضع لها «التصوّر» والتوجه الاوبيرالي تنحو دائما هذا المنحى.. «يا ليل يا قمر» عرض «يا ليل يا قمر» الموسيقي الفرجوي الغنائي الذي اختتم به محمد القرفي مساء الأحد الماضي الدورة 44 لمهرجان قرطاج الدولي لم يحد فيه صاحبه عن توجهه هذا فمجملا القطع اللحنية التي أثّثت مادته الموسيقية والغنائية هي قطع ذات نفس «اوبيرالي» غربي صاغها محمد القرفي لتكون ألحانا لقصائد وأشعار مختارة لشعراء عرب معاصرين مثل محمد درويش وأمل دنقل وعبد الحميد خريّف وابو القاسم الشابي تغنّوا فيها بالوطن والحبيبة واداها الرباعي صلاح مصباح ونور الدين الباجي ودرصاف الحمداني واماني السويسي. ردود فعل مختلفة الجمهور الحاضر الذي لم يكن يعنيه كثيرا على ما يبدو «تفهم» طبيعة التوجه الموسيقي الذي يتنزّل فيه العرض ولا ايضا الوعي بالحيثيات والابعاد التي تشكّل الاختيارات الفنية للأستاذ محمد القرفي بدا في البداية مقبلا على العرض ولم تفاجئه كثيرا «النبرة» الاوبيرالية للقطعة الموسيقية التي افتتحت بها الفرقة الحفل ولكن وبمررر الوقت وتواتر المطربين تباعا على الركح لاداء الاغاني وهم على التوالي نور الدين الباجي ودرصاف الحمداني وصلاح مصباح وأماني السويسي بدأ الجمهور الحاضر في عمومه يشعر وكأنه محل ممارسة فنية قمعية.. فالأغاني والقطع اللحنية كلها ذات نفَس (بفتح الفاء) اوبيرالي ولم يكن بوسع هذا الجمهور الا ان «يرضخ» لهذا الاختيار وان يستمع او ان «يطيّر قرنه!». وعلى عكس المطربين الاربعة الذين بدوْا مستعدين لان يواصلوا في اداء «أدوارهم» ضمن هذا العرض الموسيقي الغنائي الى النهاية فان جانبا كبيرا بل وكبيرا جدا من الجمهور اخذ في مغادرة المسرح الاثري الروماني بقرطاج وقد استمعنا للبعض منهم يقول: «يا قرفي اقعُدْ فيها!». سلطان الأذن! واذا كان يجوز بالتأكيد للمتابع بأن يقول عن عرض «يا ليل يا قمر» الموسيقي الغنائي بأنه قد فشل جماهيريا نظرا لعدم تفاعل الجمهور الحاضر مع مقترحاته الموسيقية والغنائية ومغادرته للمسرح بأعداد كبيرة فانه لا بد بالمقابل من التنبيه الى ضرورة ألا «يتعسّف» موسيقيونا مستقبلا وخاصة المثقفين منهم والمجتهدين الذين لا نشك لحظة في نبل نواياهم.. ألاّ يتعسّفوا على «فطرة» الذائقة الفنية والموسيقية التي «فُطِر» عليها الانسان التونسي وأن يراعوها ولا يسقطوها بالكامل من حساباتهم عندما يحاولون الاجتهاد وتقديم الاضافة وذلك رأفة بهم وباجتهاداتهم نفسها.. فالأذن التونسية التي تشكّلت ذائقتها الفنية تاريخيا نتيجة مجموعة «معطيات» ثقافية ووجدانية وذوقية معلومة لا يمكن لها ان «تتنصّل» عنها لتتحوّل بين عشية وضحاها الى اذن.. بلا ذاكرة وبلا هوية.. اذن مستعدة لان تتلقى كل جديد حتى لا نقول دخيل وتهضمه بيسر.. لذلك قد يكون مطلوبا من الاستاذ محمد القرفي الموسيقيار المثقف الذي نكنّ له كل الاحترام ان يوغل برفق مستقبلا في مجال «البحث» والتجديد الموسيقي وذلك حتى لا يصدم لا نفسه ولا تجربته ولا جمهوره.. ...وعن حفل الاختتام اما عن حفل الاختتام ذاته للدورة 44 لمهرجان قرطاج الدولي فانه بدا فنيا وفرجويا دون المستوى بل وضعيفا جدا وانه شكل مع حفل الافتتاح نقطة الضعف الاساسية والكبرى في هذه الدورة.