إنّ المتفحّص في الخارطة السياسيّة، تقريبا في كلّ دول العالم، وفى طبيعة الحراك السياسي الذي تتميّز به علاقة الانظمة الحاكمة بفسيفساء المعارضة في هذا البلد أو ذاك لا يجد عناءا في ملاحظة وجود أقلّية قليلة في الغالبيّة السّاحقة من البلدان المهيكلة على مستوى نشاطها السياسي على نمط التنظيم السياسي كما تشهده الدول التي اتخذت من النهج الديمقراطي سبيلا لممارسة الحكم، هذه الاقليّة عادة ما تتّسم مواقفها بالتطرّف المبالغ فيه وتتميّز فلسفتها في إدارة الحكم والمشاركة فيه، إن كان لها في ذلك فلسفة ورؤية حقيقية تستحق أخذها بعين الاعتبار، تتميّز بظاهر مثاليّة مبالغ فيها ولا واقعية أقرب منها إلى مجموعة نوايا مبيتة لاشخاص هم فى حقيقة الامر ضحايا عقدة الاحساس الدّائم وغير المبرر بالاقصاء والتهميش، بل إنّه يصل بهم الامر إلى أن يجعلوا من هذا الاحساس حصان طروادة ومطيّة لتحقيق أغراض شخصية وبالمرّة يغرون من ليس لهم تجربة ودراية بثنايا العمل السياسي وخفاياه فيزجّ بهم في متاهات ليس لهم في واقع الامر فيها من ناقة ولا جمل فتراهُم يُراوحون أمكنتهم ويرتادون بنات الافكار من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في نرجسية الابطال، ميزة بطولتهم التشهير باضطهادهم من الانظمة الحاكمة وسدّ الافاق أمامهم للتعبير بكلّ حرّية على آرائهم ورؤاهم المجتمعيّة وعادة ما تجد هذه الفئة الضالّة، على أقلّيتها في مساندة تنظيمات معروفة نواياها دوليّا، تجد لها مساندة ظرفية أو مناسبتيّة مثل مناسبة الانتخابات وذلك لتستغلّ مواقفها في أجندتها التي هي في واقع الامر أجندات استعمارية مغلّفة بقوالب جاهزة تستعيرها من مضامين راقية لحقوق الانسان والحرّيات لم تأت في سياق العولمة لتخدم في حقيقتها مصالح هذه التنظيمات المشكوك في نزاهتها من مُنطلق ازدواجيّة معاييرها وسكيزوفرينية منشّطيها والمسؤولين عنها. وعلى هذا المستوى من التحليل فإن الامر اللافت للنظر أن هذه الاقلية ممن تعتبر نفسها مُعارضة وتطلّ علينا من نوافذ الخارج تتكوّن هي ذاتها من أطياف تختلف رؤاها واتجاهاتها السياسية والفلسفية لتصل في بعض الاحيان إلى التضارب فيما بينها، فمنها المحافظ الراديكالي الذي يجعل من الدّين مطية لنشر أفكاره ومنها اليساري المتطرّف الذي يؤمن بديمقراطية الفوضى وحرّية "إفعل ما شئت كيفما رأيت وكيفما بدا لك أن تفعل لانّك حرّ طليق، إلاهك هواك وميزاجك" ومنها الذي يدّعي الحكمة دون غيره والفقه في فنّ قيادة الشعوب، والغريب الغريب، على تشتّتها وتنوّعها وعداواتها فيما بينها، أشخاصا وأفكارا وعلى تفرّدها في القدرة العجيبة على الغوص في بحور الفراغ لسنوات وسنوات دون مراجعة للنفس ولو برهة من الزمن، الغريب في قدرتها على الالتفاف والتحالف المُشين، تحالف المتناقضات في كلّ موسم من مواسم الانتخابات في هذا البلد أو ذاك، فتراها تعبّئ المناصرين من أجل إفشال عُرس ممارسة الدّيمقراطيّة بشتّى الوسائل والمبرّرات بدءا بالتشكيك في نزاهتها ونزاهة المترشحين لها، وإنتهاء بالتصيّد في المياه العكرة ببثّ الاشاعات والتحريض على العصيان والفوضى وقلب الانظمة الحاكمة مبشّرة بعهود قادمة تكون مؤسسة لجمهورية افلاطون ويكونون مع غريم الامس ويرصّون الصّفوف ويركنون تحت أجنحة منظّمات تدّعي اختصاصها في الدّفاع على حقوق الانسان في كلّ أنحاء العالم إلاّ في مقرّ تواجدها ونشأتها فإنها تعتمد مبدأ سياسة الهندسة المُتغيّرة القواعد حسب تغيّر الاوضاع والاشكال فلا ترى في بلدانها مظاهر التمييز العنصري والتفرقة العرقيّة والتجاوز الصّارخ في عديد الاحيان لابسط حقوق الانسان وغيرها من الحقوق لان في ذلك خطرا على تواجدها في تلك البلدان، وليس في ذلك أيضا خدمة لمصالحها الحقيقيّة ومصالح القائمين عليها، وإن كان في معاني المثالية مقال وتعليق فالثابت أن الكمال ليس من صفات البشر وإنّما ما يعود للبشر من واجب السّعي نحو الافضل بخطى ثابتة ودون تسرّع يجعل من مباركة أي مظهر من مظاهر الدّيمقراطيّة حتى وإن لم يرتق في حينه لما نرتضيه في نهاية المطاف فإنه من الواجب تدعيمه وتشجيعه ومساندته من منطلق العبرة بأن الموقف الايجابي يسبق دائما الخطى في الاتجاه الصحيح على الموقف السلبي هذا عدا أن الدّيمقراطية، وقد أثبتت كلّ الاحداث ذلك، ليست مفهوما قابلا للاستنساخ بقدر ما هو مفهوم يستدعي التجذير الامثل ولو على مراحل في المحيط الذي يستقبله ويتبناه ويتّخذه نهجا وسبيلا في إدارة الشأن العام وتجذير معاني المشاركة الشعبيّة وليست الانتخابات وإن كانت عنصرا أساسيا ومكوّنا محوريا من مُكوّنات المنظومة الديمقراطية الفرصة المثلى لتحالف المتناقضات أكانت معارضة أو مؤلّفة قلوبها حتى تتموقع التموقع الصحيح في الخارطة السياسية لهذه الدولة أو تلك خصوصا منها تلك التي تتخذ من الخارج قواعد تنطلق منها لمحاربة وانتقاد وإثارة الرأي العام في الداخل وبثّ البلبلة فيه، حكمتها في ذلك، على ما يبدو: وتبقى "الفتنة أشدّ من القتل". د. هدى سعادة