إنّ الممارسة الدّيمقراطية كمفهوم معاصر لإشاعة مقوّمات المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام للبلاد وما يترتّب عنها من سِلم اجتماعيّة صُلب مُختلف شرائح المجموعة الوطنيّة، هذه الممارسة الدّيمقراطية تحمل في طيّاتها ما يُمكن أن يُعبّر عنه بحق المعارضة الدّيمقراطية، هذه المعارضة التي تترجم حرّية تعبير وتفكير ومساهمة الأقلّية في رسم ملامح الفضاء العام بكلّ مكوّناته المُجتمعيّة بالموازاة مع الشرعيّة التي تكتسبها الأغلبية في إدارة الشأن العام لفترة ما، في ظرف ما وفي مكان ما، من منطلق تحصّلها على ثقة نسبة معيّنة من المقترعين تؤهّلها لفرض تصوّراتها المُجتمعيّة في تلك الفترة، وهو ما يُميّز التوازن الذي يُحقّقه اعتماد منهجيّة ديمقراطية في إدارة شؤون المجتمع، فلا أغلبيّة حاكمة دون أقلّية مُعارضة في نظام ديمقراطي جدير بهذه التسمية، لأنّ كلتا الجبهتين تكمّلان بعضهما البعض خدمة لمستقبل البلاد من منطلق أنّ من أوتي العِلم كلّه قد جهل، وبالتّالي فإنّ عين المنطق تفرض أن يكون هناك لكلّ سُلطة مُرادفها في ميزان ممارسة السلطة حتّى تكون هذه الممارسة نسبيّة تأخذ فيها الأغلبيّة بعين الاعتبار رأي الأقليّة إذا ما بدا سديدا خدمة لمصلحة المجموعة الوطنية، بعيدا عن كلّ فلسفة تيوقراطية تجعل من الاقصاء والتهميش ديدنها ونعرة النرجسيّة والرضا التام على الذات مفصل توجّهاتها، وفي المقابل فإنّ مُعارضة الأقليّة لها آدابها وحدودها ومُقوّمات الالتزام بروح المسؤولية والانضباط الذي يفرضه روح الانتماء والمواطنة الحقّة دون أفكار مسبقة ورغبات جامحة لا يعلمها إلا أهلها في العمل ولو بصيغ ملتوية على إقصاء وتهميش إرادة الأغلبيّة، ذلك أنّ اعتناق مذهب المُعارضة من أجل المُعارضة مرضٌ عضال لا يُشفى منه عليل أفسده الدّهر، لا تنفع فيه عقاقير مهما بلغت شدّة مُحاربتها للظواهر المرضيّة التي ألمّت به، وفي هذا الصّدد بالذات نقول وكلّ مريض بهذا الصنف من المرض بمثل هذه الإشارة يفهم. إنجاح الممارسة الديموقراطية حينئذ، وإذا ما كانت الممارسة الديمقراطية، تعتمد على هذا الأساس، في مفهومها المبدئي، فإن مسؤولية المعارضة في إنجاح الممارسة الدّيمقراطية وتجذيرها صُلب المجتمع لا تَقِلُّ أهميّة على مسؤولية النظام الحاكم في ذلك. وتونس التي اختارت أن تعتمد منهج الديمقراطية مبدأ في إدارة الحُكم والتناوب عليه لا رجعة فيه، لا تختلف في ميزان القوى هذا الذي يُكرّس مبدأ شرعيّة الأغلبيّة واعتبار مكانة الأقلّية في هذه الإدارة في الحُكم، حتّى وإن بدا للبعض أنّ الخطى ليست حثيثة بالسّرعة التي ينتظرها البعض الآخر، إلا أنّه تجدر الإشارة هنا إلى أنّ إرساء مقوّمات الدّيمقراطية لا تعتمد السّرعة في الخطى بقدر ما تعتمد الثبات فيها، وتجارب عدّة في هذا المضمار أثبتت سداد هذا الخيار من منطلق أنّ المفصل بين الديمقراطية والفوضى لا يتجاوز في سُمكه سُمك شعرة سيّدنا علي رضي الله عنه، كلّ بمقدار، فلا إفراط ولا تفريط في مجهود إرساء مُقوّمات الممارسة الدّيمقراطية وتجذيرها على دوام المدى، فكلّ ممارسة تستوجب التمرّس والتمرّن مع اعتبار خصوصيّات المحيط الذي فيه ننوي تجذير تلك الممارسة، فليست الدّيمقراطية على هذا المستوى وصفة صالحة لكلّ زمان ومكان بل هي تقليد وثقافة تعامل مع الأحداث والأوضاع والقضايا المطروحة، سرّ نجاحها في عُمق تأقلُمها مع محيط غَرْسِها فيه، مثلُها في ذلك مثل كلّ نبتة أو شجرة أو غرس له في أرض غرسه عناصر غذائه وحمايته ودوامه ونموّه السّليم. اتجاهات عامة في الممارسة السياسية إلاّ أنّ المُلاحظ المُتمعّن في مشهد المُعارضة في تونس خصوصا إذا ما رام تقييم آدائها بمناسبة حلول المواعيد الانتخابية تتراءى له بعض الاتّجاهات العامة في الممارسة السياسية لقُوى المعارضة، ومن هذه الاتجاهات ما فيها أمل التقويم أمّا ما بقي منها فلا أمل يُرجى من تقويمها. وما يُمكنُ الإقرار به في منحى إيجابي، فيما يخصّ الاتّجاه الأوّل، اعتماده مبدأ التطوّر خطوة خطوة على حسب إمكانيّاته وقاعدته الجماهيرية، وما يعاب عليه في المقابل تجذّر ثقافة الحراك السياسي المُناسباتي والظرفي الذي قد لا يخدم العمليّة الدّيمقراطية في انعكاساتها على المصالح بعيدة المدى للمجموعة الوطنية، لأنّ التقوقع في فلسفة تفسير العملية الانتخابية في كلّ مستوياتها من رئاسية وتشريعية وبلديّة على أنّها مجرّد عمليّة حسابيّة لا همّ فيها لمن ينخرط صُلبها إلاّ فيما قد يتحصّل عليه من الكراسي فتلك، ودون شكّ، فلسفة انتهازيّة لا تخدم منهج الدّيمقراطية في شيء ولا يخدم أصحابها مصالح المجتمع لا من قريب ولا من بعيد، ولا يُرجى منهم خير أو بعض من الخير، والواقع هنا يثبت الإحساس والرؤيا، لذلك نقول إن الأحزاب كإطار تنشُط فيه المُعارضة السياسيّة في ظلّ الدّيمقراطية الصّحيحة برامجُ ورؤيا مجتمعيّة وفلسفة منطقيّة في إدارة شؤون البلاد والعباد أو لا تكون، ومن هذا المنطلق فالحركية السياسية والنقد البنّاء والرأي المُخالف الذي يرمي إلى أن يكون سندا لمن يُدير الحُكم في شرعيّة الأغلبيّة لا يُمكن أن يكون حضورا ظرفيّا أو عرضيّا أو مناسبتيّا أو فكرا انتهازيا يعيش ويقتات ويصحو فقط في مواسم الانتخابات، ولكلّ عبرة مُعتبر. أمّا الاتجاه الثاني، ذاك الذي يبدو أنّ معتنقيه ممن فيهم هوى وهوس حبّ المعارضة من أجل المعارضة ولا شيء غير المعارضة، شعارهم في ذلك عارض يا أخي الشيء وضدّه، وإن يكتفي المرء بالقول فيهم شواذ يُحفظون ولا يُقاس عليهم ومع ذلك فإنّ هذه الشريحة التي هي أقلّية في حقيقة الأمر وإن ترنو إلى أن تظهر في صورة مجموعة ذات أهميّة فكريّة وعدديّة ما يجعل منها ضحيّة تدعو إلى البكاء على أطلالها وتنشد في ذلك مُساندة كلّ من هبّ ودبّ، في نهج اختارته مسدودا قولا وفعلا حتّى وإن لم يكن هذا السند موضع ثقة وله أسبابه وأجندته التي لا علاقة لها بالممارسة الدّيمقراطية أو بالمصالح الحقيقيّة للمجموعة الوطنيّة لمُجتمع أو لنظام ما، فإنّ هذه الشريحة ممّن تعتبر نفسها معارضة لا نعلم لها اتّجاها معيّنا ولا برامج ولا تصوّرات مُجتمعيّة حقيقيّة غير تلك التي تحنّ إمّا إلى عصور واهية أو تلك التي تعتقد في جمهوريّة أفلاطون الفاضلة، وعادة ما تُناقض ممارساتُها وأفعالُها أقوالَها ومواقفَها فتراها تدعو إلى المشاركة والتناوُب على الحكم وهي متعصّبة حدّ النّخاع في أفكارها، وقد تختزل قوّتها في فرد أو شخص عادة ما يكون مهُوسا بالأنا والأنا الأعلى، يعيش عيشة النّبلاء ويدعو صباحا مساء إلى البساطة في العيش واقتسام الرّغيف ونصفه وهو في حقيقة الأمر لا يعرف طعم الرّغيف بقدر ما يتذوّق مذاقات طعام هو حكر على شريحة من يدّعي أنّهم طُغاة في الأرض. وعلى هذا الأساس نقول ليست الانتخابات في حدّ ذاتها هدفا، بل هي وسيلة يُتناوَبُ بها على الحكم وإدارة الشأن العام في كنف الاحترام المُتبادَل بين الرّأي والرّأي الآخر لأبناء البلد الواحد مع عدم إغفال مقوّمات وقواعد وثوابت الممارسة الدّيمقراطية التي تُعطي شرعيّة ممارسة الحكم للأغلبيّة، وتعطي الأقلّية المسؤولة شرعية المعارضة المسؤولة التي بتصوّراتها وبرامجها وممارساتها الحضارية لا فقط ترفع من آداء الأغلبيّة بل وأيضا تنأى بنفسها على أن يتقلّص حجمها لتصبح مُجرّد معارضة انتخابات وتكون فلسفتها في أسوء الحالات ونظرتها للإنتخابات مجرّد إنتخابات معارضة. فالإنتخابات عُرس وطنيّ وموعد تبرز فيه الوطنيّة الحقيقيّة وترتقي فيه المُواطنة إلى أسمى معانيها، ليست حكرا على أحد وليس لأحد له عليها من سُلطان مُطلق إلا بما تفضّل فيه على غيره بما تنطق به صناديق الإقتراع، لها سحرها وليس فيها من سرّ سوى موضوعيّتها.