عشرة أيام مضت على مباراة الجزائر ومصر في الخرطوم، ولكن تداعياتها ما تزال تفعل فعلها في اعلام البلدين وساحاتهما السياسية والثقافية والبرلمانية. تهم متبادلة، وتعبيرات من هناك وهناك، تشي بقدر هائل من الكراهية التي تتقاذفها صحف البلدين والفضائيات المصرية والتلفزيون الجزائري بشكل مثير للدهشة.. ولعل نظرة سريعة في بعض هذه التعبيرات المستخدمة من هذا الجانب أو ذاك، تحيل المرء على ما يشبه الحرب التي بات البلدان على قاب قوسين أو أدنى منها.. اقرأوا معي جيّدا: «دماء المصريين لن تذهب سدى».. «الجزائر ستقاضي علاء مبارك».. «البرلمان المصري يطالب برفع الاعتداءات الجزائرية ضد مصر الى محكمة الجنايات الدولية».. تغيير اسم شارع الجزائر بشارع حسن شحاتة في القاهرة.. «الجزائر ترفض الحقرة.. ولا ترضى بالاستعلاء عليها».. «ندعو الى المقاطعة العلمية والدينية للجزائر» (بعض علماء الازهر).. «القاهرة تعلن حربا ثقافية ضد الجزائر».. «أبيدوهم.. إنهم شعب همج ومجرمون».. «مصر راقصة الدنيا.. وليست أم الدنيا».... هذا نزر من كثير من العناوين و«الدعاوى التلفزيونية»، التي جاد بها إعلاميون ومثقفون وسياسيون وبرلمانيون من مصر والجزائر، بذات القدر من العنف والرغبة في «القصاص» مما يعتبره المصريون مسّا من كرامتهم، وحقنا لدمائهم، وما يقول الجزائريون انه ردّ فعل طبيعي على العنف والدماء التي سالت اودية من جزائريين في القاهرة وأم درمان.. لاشك ان الآلة الاعلامية في البلدين لعبت دورها بشكل جيّد في خلط الخيط الابيض بالخيط الأسود، بصورة لم تعد تسمح بتبيّن الظالم من المظلوم، الفاعل من المفعول..لكن اللافت في كل ما يجري في البلدين منذ عشرة أيام أو أكثر، أمران اثنان على الأقل: * الجهات الرسمية التي ما تزال تلتزم الصمت إزاء هذا الذي يحدث، رغم خطورته الحاضرة والمستقبلية، الى الحدّ الذي جعل بعض المراقبين لا يستبعدون رغبة رسمية هنا وهناك، في استمرار هذا التجاذب، بل الحرب الاعلامية، في سياق التنفيس عن الشعبين، بحكم الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تفاقمت، وباتت تنذر بتداعيات سلبية.. أو هكذا يعتقد.. * غياب ما يطلق عليهم عادة ب«أصوات العقل» في البلدين.. فهؤلاء لا يكاد المرء يعثر لهم على أثر فيما يجري.. ولسنا ندري، متى يحضر العقل والحكمة، ان لم يتدخلا في مثل هذه الاوضاع المريبة حقا.. على ان التجاذبات الاعلامية التي لم تهدأ الى الآن بين البلدين، تكشف عن وجود حلقات فراغ في العلاقات الثنائية من جهة، كما تؤكد أن أفكارا ومقاربات عديدة، من تلك التي شنفت آذاننا على امتداد العقود الماضية منذ ما بعد بناء الدولة الوطنية، كانت بمثابة «الغلاف الخارجي» الذي ظل يتراكم من دون ان يخترق العقول او يلامس القلوب، من جهة اخرى.. دعنا مما أصبح يروّج حاليا، من ان ما يجري هو من فعل «فئة إعلامية ضالة» في البلدين.. فمثل هذه المقاربات لم تعد تقنع حتى أصحابها ومروّجيها. إن ثمة خللا أساسيا، كشفت عنه التداعيات الاعلامية والسياسية لمباراة مصر والجزائر، ويمكن اختزالها في جملة من النقاط، أهمها: 1 أن نسيج العلاقات العربية العربية يحتاج الى مراجعة جذرية في سياقه وتفاصيله ومضمونه وأفقه، بعيدا عن مقولات «العلاقات الثنائية الحميمة»، و«الأخوة التاريخية التي تربط البلدين»، و..و... فما قيمة «أخوة» و«حميمية»، تنقلب بتسديدة كرة، وبسرعة عجيبة الى مقدمات حرب بكل ما للكلمة من معنى؟، وهو ما تعكسه الحملات الاعلامية بين الطرفين.. 2 إن ثمة تراكما تاريخيا فيه الكثير من التشويش في علاقات الشعبين ونخبهما الفكرية والسياسية على حدّ السواء.. تراكم كان لابد أن يظهر في يوم ما، بحكم عدم توفر قنوات حوار وجدل ونقاش بين الجانبين.. لذلك ظلت هذه التراكمات قابعة في اللاوعي، تنتظر الفرصة للتعبير عن نفسها كوعي مجتمعي.. وجاءت مباراة الكرة اللعينة، لكي تخرجها للوجود الشعبي والاعلامي والسياسي.. 3 إن ثمة مخزونا لحساسية مفرطة في علاقات الشعبين ونخبتي البلدين، مخزون يعكس وجود مساحات من سوء الفهم بسقف عال بين المصريين والجزائريين، وهي مساحات تبدو مفتوحة على احتمالات عديدة، كان أحدها ما نراه من «حرب إعلامية» حامية الوطيس، مست التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والثقافة، بل طالت حتى التركيبة النفسية للمصري والجزائري.. وهو أمر ستكون له دلالاته السلبية على علاقات البلدين قد تمتد لسنوات.. 4 أن العنف في منطقتنا، ليس مجرد ردّ فعل أو موقفا عابرا، إنما هو ذلك «الكيان» المتأصل فينا، الذي يتربص بنا وبأوضاعنا، وبمجرد أن تتوفر له ربع فرصة حتى ينقض عليها، ويحيل علاقاتنا وتاريخنا وبيئتنا الى جحيم من التوترات.. وهو ما يستدعي مراجعة جذرية لهذا المارد فينا، فما حصل بين مصر والجزائر، يمكن ان يحصل بين بعض الدول العربية الأخرى.. فلا أحد بمنأى عن تداعيات من هذا القبيل.. 5 أن الاعلام في بعض البلدان العربية، بحاجة الى ثورة عميقة في أسلوبه وخلفياته ومكوّناته وثقافته ولغته، لأن تلك هي المساحات الجديرة بالاهتمام والتطوير، وليس مجرّد بعث قنوات أو فسح المجال لفضائيات شتى، تصبح بلا تلك الثورة اللازمة، غثاء كغثاء السيل، وهو حال الاعلام المصري اليوم، الذي انتبه إليه البعض من المثقفين والسياسيين على خلفية هذه الأزمة.. الاعلام العربي بحاجة إلى نوافذ عديدة، نطل من خلالها على بعضنا البعض، حتى نكسر تلك التقسيمات الجغرافية الاستعمارية التي زرعت فينا من قبيل: الشمال الإفريقي والمشرق العربي...وغيرهما... وهذا يحتاج الى إعادة النظر الرسمية العربية في مسألة التضامن العربي بصورة عميقة وجادة وشجاعة... «ربّ ضارة نافعة»، وأحسب أن ما حصل بين مصر والجزائر وهو مستمر الى الآن للأسف يمكن استثماره إيجابيا، إذا ما حضر العقل، وغلبت الحكمة، وهيمنت المصلحة العليا للشعوب، وساد هاجس المستقبل على الماضي..