تونس الصباح كان لقاء الفنان الجزائري »بعزيز« (أو عبدالعزيز بختي) بجمهور »التياترو« مساء امس الاول شبيها بلقاء الاحبة بالاحبة بعد غياب غير مبرر. فلهذا الفنان في تونس جمهور يحبه ويتفاعل مع عفويته وينادي برغبته في اكتشاف جديده في كل مرة فيما لا تخلو علاقة »بعزيز« بهذا الجمهور من قدرة على الاقناع في كل مرة.. فهو قادر على شد الجمهور فقط وهو يروي قصصا لا تنتمي الى قاموس القوالب الجاهزة ولا الحكايات المنمقة التي تروي بكذب مستفيض حقائق واهية.. جاء الى تونس محملا بعشقه الكبير لهذا البلد، وكان العشق متبادلا في قاعة »التياترو« التي غصت بالتوانسة والجزائريين ايضا. جمهور تفاعل مع الغناء الذي لم يخل من نقد وانتقاد متقن على مستوى الطرح الشعري والموسيقي ايضا. تحدث »بعزيز« عن المرأة المسنة التي تزوجها في فرنسا ليحصل على اوراق اقامته بأسلوب ساخر، واهدى »بابا الحنين« الى روح والده الذي صور بساطته وانتماءه الى مجتمع محافظ الى حد لا يمكن التعايش معه. ووصف معاناته مع الرقابة في بلده في نغم ثالث كان الاكثر تأثيرا، وغنّى للجزائر بتأثر وانتقد كل السياسات التي لا ترحب بحرية القول والتعبير في العالم والتي قد تصل الى حد اقصاء المبدع من بلده بسبب مواقفه او ارائه التي جاهر بها ولم يتركها محل الكتمان. ذكي وصادق وقد كانت انطلاقته الاولى في عالم الغناء الذي لا ينتمي الى صنف »الراي« ولا الى صنف الغناء الغربي المعتمد على آلات ايقاع صاخبة ليوظف »القيتار« و»البيانو« (الذي غاب في سهرة »التياترو«) و»الموندولين« وببعض آلات الايقاع البسيطة، فيما يركز »بعزيز« عمله على ثنائية السرد/المازح والمنتقد لبعض الظواهر او الحالات، والغناء الذي يكمل ما ذهب اليه من »تصريحات نارية« فيها ذكاء وقدرة على التبليغ.. سنة 1989 حقق نجاحه الابرز بأغنية »يا حسرة كي كنت صغير« لرشيد قسنطيني والتي اعاد اداءها بأسلوبه الخاص ودفعه منعه من الاقامة والنشاط الفني بالجزائر في فترة ما من حياته الى السفر الى فرنسا للدفاع عن حقه في الغناء بالاسلوب الذي يعجبه ويقدر من خلاله على التبليغ، واثناء اقامته لسنوات طويلة هناك حقق شهرته واصبح معروفا باختلافه وجرأته في النقد. لطفي بوشناق وخالد وفوضيل... في عرضه »بعزيز.. العودة« بفضاء »التياترو« انتقد بعزيز جل زملائه من فناني »الراي« المعروفين على غرار الشاب خالد والشاب مامي وفوضيل ولم يمنعه ذلك من تأدية البعض من اغانيهم الشهيرة بأسلوب ساخر فأفرغها من معانيها الحقيقية واصبغها لباسا آخر ساخرا وجريئا... ولعل ما يميز هذا الفنان عن بقية من نراهم يحاولون اختلاق الاجواء الطريفة في الغناء، هو سرعة البديهة لديه، فهو يتعامل مع الجمهور الحاضر كمنشط وداعم لنص عرضه، والجمهور قادر على الاسهام في مواقف لا تخلو من الطرافة. لذلك تراه يصغي الى كل الملاحظات وحتى الضحكات والهمسات. وحين انتقد »بعزيز« صنفا من الغناء الكلاسيكي الذي يعتبره غير مجد لانه لا يطرق ابواب القضايا الاجتماعية والسياسية الساخنة في هذا العالم، غنى للطفي بوشناق »ريتك ما نعرف وين« بأسلوب طريف، فاحتج بعض الحاضرين على هذا الاستشهاد واعتبروا انه »يظلم« تجربة بوشناق... ولكن »بعزيز« واصل تهكمه ثم اضاف جملة قال فيها »بوشناق صاحبي وأنا انحبو برشة«! ونفهم ان الحالة الابداعية التي يكون عليها »بعزيز«، وهو يقدم عروضه، تتعارض في مضمونها مع ما يربطه من صداقات خارج اطار هذا الطرح لذلك وجدناه وفيا لمواقفه الصارخة تجاه هذا العامل، ثم يستدرك بعد الانتهاء من تقديم نصه بجمل اعتراضية يبرز فيها هذا الجانب الحرفي فيه. الجبالي مبدع في العزف وتمثلت المفاجأة الثانية الابرز، في اعتقادنا، في القدرة العجيبة التي اكتشفناها في الفنان توفيق الجبالي العازف في فرقة »بعزيز« والذي كان ضابط ايقاع متمكنا من تفاصيل عرضه وانسجم مع المجموعة لتقديم اداء »ساخن« اهتزت له القاعة وصفق له الحضور طويلا.. وقد بدا واضحا ان الجبالي يملك قدرات »مخدومة« في مجال العزف و»التخمر« مع »بعزيز« وجماعته.. وجد »بعزيز« صعوبة قصوى في مغادرة الركح. فالجزائريون متحمسون للمزيد من الجرأة والتوانسة يساندون هذه الرغبة. ولكن كان لابد من اعلان النهاية في تلك السهرة التي عبر فيها هذا الفنان عن مواقفه دون تردد، لانه لم يتملص من خط الجرأة والصدق الذي اتجه فيه حتى آخر لحظة من اعتلائه للركح..