تونس الصباح في قلب العاصمة يفتح مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (سيراس) أبوابه طيلة ساعات النهار للزوار.. لكن من يدخل مكتبته يلاحظ أنها مهجورة.. ففي زيارة أجرتها »الصباح« إلى هذه المؤسسة البحثية العريقة التي يعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1962 لم يتسن العثور على أحد.. لا باحث ولا جامعي ولا طالب ولا حتى عابر سبيل أخطأ العنوان.. وهو ما يدعو إلى طرح سؤال ملح: »لماذا أقفرت هذه المنارة العلمية من روادها؟ ولماذا هجرها الجامعيون؟«.. أمضينا في قاعة المطالعة التي تفتح نوافذها على ساحة العملة وقتا ليس بالقصير.. وكانت تصلنا عبر مضخمات الصوت بالمتاجر المجاورة أغان شعبية هابطة تختلط بهتافات باعة السوق الموازية الذين يتغنون بأسعار سلعهم الرخيصة التي يبيعونها على قارعة الطريق.. انتظرنا في تلك القاعة الباردة »حلول ركب« أحد الزوار.. تصفحنا آخر منشورات المركز وفهارسه التي تضمنت كل العناوين التي وردت في كراساته منذ سنة 1966 إلى سنة 2003 أوفي »المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية« منذ صدور العدد الاول إلى غاية العدد 122 لسنة 2001. كما اطلعنا على بقية المنشورات الصادرة من سنة 2001 إلى سنة 2008 وعلى الكتب التي نشرها هذا المركز خلال العقود الثلاثة الاخيرة ومن بينها »الكتاب المدرسي والنظام التربوي« و«التطور النفسي والنجاح المدرسي« و«انحراف المراهقين« و«معجم المفاهيم الحضارية« و«التعابير المتكلسة الاسماء المركبة وعبارات أخرى«.. وتصفحنا آخر عدد من المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية وقرأنا فيه دراسة حول »ميلاد فضاء الشط وظهور جسد الحداثة في الغرب وتونس«.. ورغم مرور كل ذلك الوقت لم يأت أحد.. ففقدنا الامل وغادرنا القاعة. هل أفل نجم »سيراس«؟ نظرا لانها ليست المرة الاولى التي نزور فيها »سيراس« ونلاحظ غياب الجامعيين.. رأينا الاتصال ببعضهم للاستفسارعن الاسباب.. فكانت إجاباتهم متقاربة وهي أن المركز لم يعد يستجيب لانتظاراتهم. وفي هذا الصدد يقول أحد المؤرخين: »إنني لم أعد أهتم بمركز »سيراس« ولا أواكب تظاهراته.. حتى تلك التي لها علاقة وثيقة بمجال تخصصي.. قد يكون ذلك تقصيرا مني أو كسلا.. لكنني لست مذنبا لان تظاهرات المركز لا تشدني«. ويقول صحفي: »إنني نادرا ما أسمع عن أنشطة علمية ينظمها هذا المركز.. كما أنه حتى وإن بادر بتنظيمها فإن الاعلام حولها مازال محدودا.. الامر الذي يحرم الراغبين في مواكبتها من حضور تلك الانشطة والاستفادة منها«. وفي نفس السياق قال أستاذ تعليم عال في اختصاص علم الاجتماع »إنه لا يمكن الحديث عن حاضر هذا المركز دون العودة إلى ماضيه والسياق التاريخي والسياسي الذي أحاط بظهوره كمؤسسة بحثية«. وذكر الجامعي أن إحداث المركز في بداية الستينات من القرن الماضي اندرج في إطار برامج تحديث الدولة والمجتمع ففي تلك الفترة ولدت برامج تحديثية سطرتها النخبة السياسية.. وكان »سيراس« يعمل على تشخيص واقع المجتمع وتجاوز معوقات التنمية و«البدونة« والعقليات التي تشد إلى الوراء. ونظرا إلى أن هدفه تحديثي فإنه لا يمكن الحديث عن هذا التحديث دون إطلاق العنان للباحثين لذلك كانت »سيراس« على المستوى العلمي المنبت الذي كوّن الجيل الاول من الباحثين التونسيين في شتى الحقول المعرفية.. ومن أعلامه نجد صالح الحمزاوي وخليل الزميطي وبدرة بشير ورضا بوكراع وفرج اصطنبولي ومحمود السكلاني وهشام سكيك وصالح القرمادي وتوفيق بكار والشاذلي العياري وخالد المنوبي وعبد الجليل البدوي وعزام محمود ومحمود بن رمضان وغيرهم كثير.. فقد كان »سيراس« ضامنا لكل التخصصات وكان لبحوثه بعد موسوعي كما كانت هذه البحوث تتميز بالاستقلالية وتوغل في النقد وتشخص الاخطاء التنموية للبلاد بكل جرأة.. وكان طاقم الاساتذة الموجود فيه يضمن صفة التدريس بالجامعة والبحث كما أن الرقابة العلمية للبحوث لم تكن موجودة.. رغم أن السلطة لم تكن راضية عن الباحثين فقد كان بورقيبة يسمي »سيراس« ب«جحر الافاعي«. وأضاف الجامعي: »بذلك أثبت »سيراس« في السنوات العشر الاولى لنشأته فاعليته في تقويم السياسات التنموية للبلاد.. ولكن في السبعينات أي في مرحلة الدولة القصوى التي كان فيها حضور صارخ لجهاز الدولة في كل فعاليات البحث العلمي حصل المنعرج«.. المنعرج الخطير بين المختص في علم الاجتماع عند حديثه عن المنعرج الذي دخله مركز »سيراس« في فترة السبعينات أنه لم يكن يسمح في هذه الفترة لأية مؤسسة بأن تغرد خارج السرب.. فتم تدجين »سيراس« في هذه الفترة. وبعد أن كان مقصدا للباحثين المتميزين وبعد أن كان يستقطب الاوائل في مجالات تخصصاتهم أصبح في السبعينات والثمانينات مكانا ل«الفريقو«.. وأرضية لتجميد الباحثين المغضوب عليهم من الجامعة التونسية.ونظرا لهذا المنعرج الخطير الذي دخله المركز طيلة عقدين من الزمن فقد فقد إشعاعه وتراجعت مكانته العلمية.. وحتى بعد أن زالت الغيوم عن سمائه وحاول النهوض فإنه لم يتمكن من ذلك لانه كان من الصعب جدا إصلاح كل ما فسد.وأضاف الجامعي: »حتى خلال الفترة الحالية فإن المركز لا يستجيب لتطلعات الجامعيين« وفسر ذلك بأن وحدات البحث الموجودة فيه لا تهتم بمجالات تخصص المركز وقال مفسرا: »أن ينظم »سيراس« ندوة حول العنف في الاسرة فهذا يعد ابتعادا عن تخصصه لان مثل هذه الندوات هي من اختصاص ديوان الاسرة أو وزارة المرأة والاسرة والطفولة والمسنين«.. كما لاحظ العديد من الجامعيين الذين رغبوا في نشر بحوثهم في مجلة »سيراس« أن المركز ينشر دراسات لا تدخل في مجال تخصصه ويمتنع عن نشر دراساتهم التي هي في صلب تخصصه. ولاحظ المصدر نفسه أنه بالنظر إلى مجال البحوث الاجتماعية فيمكن للجامعي أن يلاحظ بسهولة أنه يقع الاختيار عند النشر على بحوث يقع إفراغها من الهواجس الاجتماعية والهروب من الموضوعات التي يجب تناولها معرفيا بالدرس إلى مواضيع غير مزعجة تؤمن ما يسمى ب«العلوم الاجتماعية الوديعة«.كما لاحظ محدثنا وجود تراجع واضح عن المناهج الموضوعية والاقتصار على البحوث الوصفية دون تفكيك وتفسير وتحليل إضافة إلى عدم استقلالية الباحث وغياب التشجيعات المادية وغياب الشفافية في تقييم البحوث. وختم الاخصائي في علم الاجتماع حديثه بطرح السؤال التالي: هل أن اهتمام »سيراس« بتنظيم ندوة حول الهوية كإشكالية متغيرة.. والاشتغال على هذا المعيار الرمزي الافتراضي.. يعكس تطلعات مركز اسمه مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية؟؟. مركز يتمثل دوره الاساسي في إجراء بحوث ودراسات تهدف إلى تشخيص وتحليل ومعالجة الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية؟؟ ولا شك أن سؤال هذا الجامعي وانتظارات الكثير من الباحثين والمثقفين ستجعل المسؤولين عن »سيراس« والمهتمين بالبحث العلمي في تونس يراجعون بعض الخيارات.. حتى لا يتحول »سيراس« إلى متحف لذاكرة البحوث الاجتماعية والاقتصادية لانه بالعودة إلى الارشيف يتضح أن هناك بونا شاسعا بين نوعية الدراسات التي أنجزت في الستينات والدراسات التي نطالعها اليوم..