البشرية تتّجه نحو نموذج كوني رغم اختلاف التطبيقات وتباينها تونس/الصباح يجمع المراقبون والمحللون على ان التحولات والتطورات التي حصلت على الصعيد الدولي، بعد 6 سنوات من احداث الحادي عشر من سبتمبر لم تمس التوازنات الاقليمية والدولية فحسب، بقدر ما طالت وهذا هو الاهم اتجاهات الفكر السياسي الاستراتيجي، الذي عرف شبه «ثورة» في المفاهيم والدلالات والابعاد والأفق النظرية.. بحيث اعيد النظر في مفاهيم قديمة، ودخلت اروقة الفكر الاستراتيجي مفاهيم جديدة تجري مناقشتها هنا وهناك. سواء صلب المحللين والمنظرين او ضمن دوائر صنع القرار السياسي في العالم.. واللافت للنظر ان هذه المفاهيم ليست من فئة القضايا النظرية المجردة، تلك التي يتداولها الجامعيون والاكاديميون عبر الجامعات ومراكز البحث والدراسات، وانما هي مفاهيم لها صلة بالعلاقات الدولية، وبمجريات السياسات الداخلية وبادارة شؤون الدول. فمفاهيم مثل الديموقراطية وحقوق الانسان وعلاقة الاخلاق بالسياسة والاسلام السياسي وعلاقته بالتحولات الاجتماعية والسياسية وبالمسألة الديموقراطية، وملف الاستعمار وقضية الاحتلال، ودور البحث العلمي والثورة الرقمية ومفهوم المقاومة، والعلاقة بالخارج ودور الاحزاب ومدلول «المجتمع المدني»، والمسألة الدينية من حيث حدودها وابعادها وعلاقتها بالسياسة، واولوية المعالجة الامنية على المعالجة السياسية او العكس، ودور الدولة وحدود تدخلها، كلها قضايا ومفاهيم لم يحسم النقاش بشأنها بعد، لكنها بالتأكيد مست المفاصل الاساسية للفكر الاستراتيجي الدولي على نحو غير مسبوق.. فما هي اتجاهات هذه التغيرات في الفكر السياسي الاستراتيجي؟ وكيف يجري التعاطي معها على صعيد الممارسة السياسية العملية؟ المسألة الديموقراطية.. لا يختلف اثنان في ان العالم شهد اتجاها نحو الخيار الديموقراطي بكيفية لا مثيل لها في تاريخ البشرية.. صحيح ان هذا التوجه خصوصا في الجغرافيا العربية والاسلامية، بدأ منذ منتصف ثمانينيات القرن المنقضي، وان بشكل محتشم ومحدود، وصحيح ايضا ان الخطاب الديموقراطي يبدو منذ ما يزيد عن العقد من الزمن مهيمنا على خطابات مختلف ألوان الطيف السياسي في جميع المجتمعات سواء بشكل رسمي او ضمن الاحزاب ومكونات «المجتمع المدني»، الا ان «الانفجار الديموقراطي» اذا صحت تسميته كذلك تكرّس بشكل اوضح في اعقاب احداث أيلول 2001 حيث اعتبر الخيار الديموقراطي، كنقطة تمايز وعنوان الحداثة والحضارة ضدا عن الفكر الشرقي المتدثر بجلباب التطرف.. بل ان احد المبررات الاساسية للاحتلال الامريكي للعراق وافغانستان، هو تحقيق الديموقراطية.. وتم في تلك الفترة تسويق مقولة «الديموقراطية في العالم العربي» كجزء من الاستراتيجيا الامريكية في المنطقة. وبالطبع فتحت هذه الرؤية الامريكية باب النقاش والجدل حول المسألة الديموقراطية، نقاش لم يهدء الى الآن، سيما في بعض التفاصيل والحيثيات والافق السياسي لهذا الخيار.. فهل الديموقراطية منتوج استهلاكي معولم، يمكن تطبيقه في الولاياتالمتحدةكما في ماليزيا وايران وبنغلاديش ومصر وتونس وغيرها على سبيل المثال لا الحصر؟ وتطرقت النقاشات الى موضوع الخصوصية في مجال الخيار الديموقراطي و«الظروف المحلية»، وعلاقة الديموقراطية بالبنى الاجتماعية، وهل ان الديموقراطية مجرد قرار سياسي أم هي تراكم سياسي؟ وهل هي البوابة للتحديث السياسي، أم هي تتويج لمسار من التطور الثقافي والسياسي والقانوني والتجريب الانتخابي؟ وما هي علاقة الديموقراطية بالاحزاب؟ هل ان كثرة الاحزاب عنوان الدمقرطة في النظام السياسي، ام ان «التضخم الحزبي» دليل «فساد» في النموذج الديموقراطي؟ ثم ما عسى ان يكون دور النظام الانتخابي في مسار الدمقرطة والتعددية السياسية؟
وعلى الرغم من مرور 6 سنوات على تفجيرات نيويورك وواشنطن فان النقاش والجدل بشأن هذه التساؤلات والاشكاليات ما يزال مستمرا وبشكل ساخن احيانا، ومتشنج احيانا اخرى، وخافت في بعض وجوهه. ملف حقوق الانسان.. قد لا يختلف النقاش حول مسألة حقوق الانسان، عن الجدل الدائر حول الديموقراطية.. فالعلاقة بين الكونية والخصوصية في مجال المنظومة الحقوقية، مطروحة في مختلف الدوائر المعنية بهذا الملف، ان كانت حكومية او جامعية او معارضة.. لكن لملف حقوق الانسان في الواقع زوايا اخرى ذات «خصوصية» بدورها في مستوى النقاش السياسي والاستراتيجي.. ففي هذا المجال بالذات، تطرح اسئلة عديدة حول علاقة النضال الحقوقي بالنضال السياسي، وهل ان ارتباط المنظومة الحقوقية بالمسلك الدولي، يبرر ما يوصف ب«العلاقات مع الخارج» بالنسبة للمنظمات المشتغلة، على هذا الملف؟ بل هل ان الحديث عن «الداخل» و«الخارج»، ما يزال حديثا ممكنا في ضوء الاختراق العولمي؟ وكيف يمكن حسم قضايا التمويل لجمعيات حقوق الانسان؟ وما هي المسافة بين الأجندا الحقوقية والأجندا السياسية؟ وهل ان منظمات حقوق الانسان جزء من الخيار الديموقراطي أم فوقه؟ وما هي معادلة تصنيف هذه المنظمات: هل هي «شوكة» في حلق الانظمة السياسية، أم هي بمثابة «المنبّه» للاخلالات والانتهاكات الموجودة؟ بل ان من بين النقاشات المطروحة، ما يتعلق بمفهوم حقوق الانسان، هل يقتصر الامر على الحقوق والقضايا السياسية، ام يشمل ذلك القضايا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والدينية؟ لكن من زاوية اخرى هل يمكن تبرير حصار المنظمات الحقوقية بالهاجس الامني؟ وهو ما يجرنا الى سؤال اساسي هو: هل ان هذه المنظمات جزء من السياق الامني ودعامة له، أم هي ضده وخارجة عند الضرورة؟ ولا شك ان مثل هذه الاشكاليات وغيرها تحيل على موضوع اكبر يتعلق بمستقبل المنظومة الحقوقية الدولية، وهل هي مطلقة ام مقيدة بالحسابات السياسية ومتطلبات الحكم ومفردات «المصلحة الوطنية العليا» و«الضرورات السياسية» التي لا تبيح «المحظورات الحقوقية».. وغيرها.. على أن ملف المنظمات الممتهنة لحقوق الانسان، يطرح في الواقع دور المجتمع المدني في عالم بات يراهن على هذا الحقل بصورة مثيرة للانتباه.. ويختزل النقاش قي هذا المجال في جوانب اساسية اهمها: هل المجتمع المدني جزء من المنتظم السياسي؟ بمعنى آخر، هل ان وظيفته سياسية تماما مثل الأحزاب ام هي ذات منحى آخر مختلف؟ ما هي حدود السياسي والجمعياتي في هذا الحقل؟ هل ان المجتمع المدني رافد للدولة، أم هو «ضميرها المستتر»؟ هل هو «قوة رقابية» في مجالات الشأن العام او بعض مفاصله على الأقل، ام هو مجرد أطر للعمل التطوعي حيث يجري استخدامه «كعين اضافية» للدولة على المجتمع؟ هل بالامكان الحديث عن خيار ديموقراطي من دون وجود مجتمع مدني حي ونابض وناشط وذي فعالية اجتماعيا وسياسيا؟ والى أي مدى يمكن اعتبار المجتمع المدني «قوة ضغط» سياسي على الحكومات؟ وقبل ذلك وبعده، هل المجتمع المدني يشمل الاحزاب والتنظيمات السياسية أم يقتصر على بعض الفاعلين الاجتماعيين؟ وهل أن فعاليات «الاسلام السياسي» جزء من هذا النسيج أم خارجة عنه بالضرورة؟ أسئلة تعكس نقاشا مهما ستكون له تداعياته على بنية الفكر الاستراتيجي الدولي. الاسلام السياسي.. انه الملف الاكثر حساسية في الغرب كما في المحيط العربي، في الاوساط الاكاديمية، كما في الدوائر السياسية، صلب الحكومات كما ضمن الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني.. وعلى الرغم من مرور 6 سنوات على طرح هذا الملف، الا ان الاشكال ما يزال ماثلا امام الجميع، وربما كان في الغرب اكثر من العالم العربي.. لقد كانت السنوات الاولى من الالفية الجديدة، بمثابة المخاض الذي لم ينته الى شيء محدد بعد في ضوء المقاربات المختلفة الى حد التباين والتناقض احيانا.. فبين اعتباره «قنبلة موقوتة» تهدد المكتسبات التحديثية للدول، ومن ثم فهي خطر على السياسة والامن والاستقرار وان اعلن اصحابها تبني بعض المفاهيم الحداثية وانخراطهم في «اللعبة السياسية والديموقراطية» وبين اعتباره جزءا من النسيج الثقافي والسياسي للمجتمع، وليس تيارا قادما من الخارج، وبالتالي فمن الضروري ادراجه ضمن العملية السياسيةحتى تكتسب هذه العملية مصداقيتها، بين هذه المقاربة وتلك، تطرح اسئلة على درجة كبيرة من الاهمية، بينها ما اذا كان ثمة علاقة بين السياسة والدين؟ وهل ان هذا التيار مكوّن ثقافي وسياسي في المجتمع لا مجال للقفز عليه، أم هو جزء من سياق تنظيمي دولي «لا وطني» (ذو اهداف قومية عابرة للقارات)؟ وهل يمكن الحديث عن ديموقراطية حقيقية، من دون البحث عن صيغة لادراج هذا التيار ضمنها؟ وما هي هذه الصيغة، هل تكون سياسية أم ثقافية؟ لكن في المقابل أليس تيار «الاسلام السياسي»، خطر على الديموقراطية باعتبار قناعاته وآلياته الرافضة لبنية واتجاهات الفكر الديموقراطي؟ والى أي مدى يمكن اعتبار هذا التيار خطرا على استمرارية الحكم وعلى بنى الدولة الحديثة، بل على المنجز الاقتصادي والاجتماعي؟ ولا شك ان هذا الملف يحيل الى تخوفات عديدة محليا ودوليا، اذا ما نظر اليه في سياق كوني اشمل على اساس انه يتناقض مع مصالح غربية ومع قوى استيطانية في المنطقة (اسرائيل بالاساس)، بما يجعل هناك موقفين منه: فيتو صادر عن شق غربي، بما في ذلك صلب الادارة الامريكية ذاتها، ونوع من «التعامل الحذر» مع هذا التيار صلب الشق الثاني من دوائر القرار الغربية.
ولا يبدو ان الفكر الاستراتيجي الدولي، الذي ما يزال يثير الاسئلة حول هذا التيار، قد حسم امره بشأنه، حيث ما تزال هناك استفهامات ستؤثر بالتأكيد على اتجاهات هذا الفكر في قادم السنوات والعقود..
قضايا مختلفة.
الى جانب هذه الاشكاليات يمكن للمرء ان يتوقف على قضايا اخرى عديدة، تشغل الفكر الاستراتيجي الدولي يمكن اختزالها لضيق المساحة في النقاط والروافد التالية:
* مسألة «المعالجة الأمنية»، التي لم تعد شأنا يعني بعض النماذج السياسية، دون غيرها.. بل هي اللغة التي يتحدث بها الجميع في المغرب العربي والشرق الاوسط وآسيا والولاياتالمتحدة وأوروبا وغيرها. لكن الاسئلة المطروحة في هذا السياق تخص حدود هذه المعالجة وتأثيراتها على العملية السياسية والخيار الديموقراطي ومجالات حقوق الانسان والحريات؟ وما اذا كانت «خيارا مؤقتا» ام «خيارا نموذجيا»؟ * العلاقة مع الخارج: حيث يبدو النقاش على اشده في جميع الدوائر والفعاليات تقريبا.. فهل «الخارج» جزء من المعادلة الداخلية أم هو منفصل عنها؟ ولماذا تحتكر الحكومات التعاطي مع «الخارج» دون الاحزاب والمنظمات؟ وهل يتيح منطق العولمة، الحديث عن «الداخل» و«الخارج» بمثل التعقيد الذي عليه هذا الملف في بعض الاوساط السياسية؟ بالاضافة الى ذلك ما هي حدود تدخل «الخارج» في »الشأن الداخلي»، وما تأثير ذلك على السيادة الوطنية واستقلالية القرار المحلي (القطري)؟ والى أي مدى يمكن الحديث عن «تأثيرات ايجابية» للخارج على الداخل، اذا ما استحضر المرء التجربة العراقية بكل ترميزاتها واحالاتها، بل ونتائجها المأساوية. * مفهوم المقاومة: الذي يحيل على سياقات جدلية مختلفة.. هل «المقاومة» خطوة تعديلية للنهج المتطرف على الصعيد الداخلي والخارجي، خصوصا فيما يتعلق بالساحة الشرق اوسطية؟ أم هي لحظة وعي ومساحة تحرك لمواجهة بعض المشاريع السياسية التي تهم المنطقة العربية والاسلامية؟ ثم ما هو مستقبل هذه المقاومة في الامثلة العراقية واللبنانية والفلسطينية؟ هل يمكن ان تكون فوق العملية السياسية أم جزء منها؟ وبأي مضمون؟ وضمن أي افق؟ وهل يمكن ان تلتقي مع بعض مفاصل السياسة العربية، أم تبقى ضمن سياقها الخاص.، بل المناقض تماما لهذه السياسة بما يجعلها معزولة، وبالتالي محدودة التأثير السياسي دوليا؟ انها أسئلة يتداولها المتخصصون وصنّاع القرار في العالم، ودوائر الفكر الاستراتيجي.. ولا شك اننا لم نأت على كل القضايا التي افرزتها احداث الحادي عشر من سبتمبر لضيق المجال بالتحديد.. لكن المهم هو وجود حالة الحيرة والسؤال، وهاجس اعادة النظر في هذا الفكر الاستراتيجي الدولي. وهي عملية لم تنته بعد بل ان ملامحها الكبرى لم تتضح الى غاية اللحظة.. وربما تطلب الامر بعض السنوات لحسمها والرسو على برّ.. وفي كل الاحوال وبصرف النظر عن هذه المناقشات، فان قضايا الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات والمجتمع المدني والتعددية السياسية والانتخابات الشفافة، كلها عناوين ومرتكزات متفق عليها ضمن ساحة الفكر الاستراتيجي الدولي.. وهو مؤشر على ان البشرية تتقدم باتجاه نموذج كوني، قد تختلف تطبيقاته هنا وهناك، لكن الهم واحد، وهو ان التحديث السياسي عنوانا للمرحلة القادمة.. وتلك من «ثمار» الحادي عشر من سبتمبر..