يؤكد رفض النيابة العليا في روسيا إعادة الاعتبار لآخر القياصرة نيقولا الثاني وأفراد عائلته الذين أعدموا من قبل البلاشفة عام 1918 حالة الانفصام الخفي التي يعيشها الروس على صعيد الطبقة السياسية أو الشعب فهناك تردد في فتح ملفات اعتقد الكثيرون أنها طويت إلى الأبد حتى بعد انهيار النظام الشيوعي في بداية التسعينات لتعود روسيا دولة اتحادية إلى ساحة سياسية دولية كانت تشهد تصاعد حمى القوميات وبروزها مجددا بعد محاولات طمسها. ولا تبدو المسألة في روسيا سهلة نظرا لوجود أطراف عديدة لها مواقف متناقضة ليس حول إعادة الاعتبار لآخر القياصرة بل أيضا فيما يتعلق بدفن لينين المحنط في ضريح بالساحة الحمراء وسط موسكو وبفتح ملفات المخابرات السوفياتية «كي جي بي» ودورها في إلقاء الآلاف في السجون والمحتشدات بسيبيريا ومضايقة العلماء المنشقين عن النظام السوفياتي. ورغم دور القياصرة في بناء الامبراطورية الروسية واتساعها لم يجد الروس الشجاعة الكافية لنفض الغبار عن فترات من تاريخهم وإعادة الاعتبار لآخر أفراد عائلة رومانوف التي حكمت روسيا من 1613 إلى 1917 وأعطت روسيا قوتها واتساعها ضمن امبراطورية كبيرة وربما يعود ذلك إلى الرغبة في إعادة فتح ملف فترة الحكم الشيوعي التي جاوزت السبعين عاما ومن ضمنه ملف القيصر. فالفترة الشيوعية لعبت فيها روسيا باعتبارها أحدى مكونات الاتحاد السوفياتي إضافة إلى 14 جمهورية أخرى دورا أساسيا انجر عنه توطين عديد الروس في الدول المجاورة لروسيا ونشر اللغة الروسية في الجمهوريات السوفياتية وهو ما يجعل مراجعة التاريخ صعبة خصوصا في فترة ما زال فيها عديد الروس متمسكين بالشيوعية إضافة إلى تيار قومي له وزنه لا يمكنه القبول بمراجعة تاريخية تلحق الضرر بالقومية الروسية. قد تصادف بعض الشعوب فترات سابقة في تاريخها وتجد نفسها في منعرج الطريق فإما أن تفتح الملفات بما تمثله من آلام للبعض ومن مشاعر متناقضة لدى البعض الآخر في حين تتطلب إعادة كتابة التاريخ استعدادا نفسيا ورحابة صدر من قبل الجميع لان مراجعة التاريخ تعني إعادة كتابته وتنقيته من شوائب عديدة واما ان تغلق الملف نهائيا وتنظر الى المستقبل.. ولكن هل يمثل التاريخ أولوية للروس الذين يعنيهم الحاضر والمستقبل أكثر من الماضي نفسه؟.. الواضح أن روسيا اليوم تعير حاضرها ومستقبلها أكبر الاهتمام وهو ما تترجمه مواقف بوتين أولا لإصلاح الأوضاع الداخلية وثانيا لإعادة بناء روسيا قوية قد تكون مختلفة في القرن الحادي والعشرين عن روسيا القيصرية وعن الاتحاد السوفياتي. لا شك أن إعادة البناء أسهل من إعادة النظر في التاريخ لأن المسألة الأخيرة فخ في حد ذاته ليس من السهل الإفلات منه في حالة تفاعلها وطغيان العواطف والأهواء عليها.