لي مع الشيوعية قصص شخصية و يطيب اليوم أن أحكي بعضا منها الى الجيل العربي الذي لم يعشها لأن فيها عبرا و دروسا و كثيرا من الثقاقة السياسية و التسلية بعد انقضاء العقود الطويلة و بعد انهيار الشيوعية ذاتها في عقر ديارها. كانت أولى علاقاتي بالشيوعية جسور الأدب الروسي التي تتيحها لي و لأندادي العرب روايات جوركي و تشيخوف و تولستوي و دستويفسكي . من خلال أعمالهم المترجمة للعربية والفرنسية عرفت شخصيا البيئة الروسية و سهول أكرانيا وضفاف الفولجا، ثم اكتشفت كتاب( سبعون) للأديب الراحل اللبناني ميخائيل نعيمة يروي فيه مرحلة من شبابه قضاها في طلب العلم بروسيا ما قبل الثورة البولشفية، و كنت أقارن بين هذه المراجع جميعا لأدرك روح الحضارة الروسية و ما طرأ عليها منذ العام 1917 بحلول الثورة السوفييتية على أيدي لينين، في زمن الستينات الذي كانت المجتمعات العربية فيه تتقاسمها أحلام التقدم السريع عن طريق الاشتراكية و ضغوط الالتحاق بالغرب الليبرالي. و يذكر كبار السن ما عانته الشعوب العربية من صراع المعسكرين الشرقي و الغربي حول شعارات التقدمية و الرجعية التي تشكل عليها الوعي العربي ما بعد الاستقلال. و كنت أطالع تلك الكتب القيمة في المركز الثقافي السوفييتي الذي يقع في شارع الحرية بتونس، الى أن اكتشفت أنا و رفاقي المولعين بالأدب خارج المركز الثقافي السوفييتي روايات الكاتب العملاق الروسي المنشق الذي ما يزال حيا الى اليوم و الذي حاز على جائزة نوبل للاداب فيما بعد ألكسندر سولجينتسين، و بدأنا نقرأ عن الغولاغ و المنفيين في سيبيريا و قسم المرضى بالسرطان و يوم من أيام دنيسوفتش، و كذلك نكتشف رواية الدكتور جيفاغو للكاتب الروسي بوريس باسترناك، و نتعرف على الأدب الثائر الذي يبشر بانهيار الشيوعية الى جانب الشريط الروسي الرائع ( عندما تمر اللقالق ) الذي سمح بعرضه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي على أيدي خروتشوف في مرحلة سميت بذوبان الجليد. و جاء أول اصطدام لي مع الشيوعية في حدثين عام 1968 الأول داخلي و الثاني خارجي، أما الأول فكان عندما أطلق سراح الشباب الشيوعي التونسي من جماعة ما كان يعرف بمجلة افاق من سجون بورقيبة و حل بالقيروان منهم اثنان في مرحلة ما بعد السجن تعرف بالرقابة الادارية و هما الدكتور الطبيب ابراهيم رزق الله والصحفي المتميز أحمد بن عبد الله لأنهما مثلي أصيلا القيروان، فرأيت من واجب الأخوة أن أرافقهما في حلهما و ترحالهما لنتجول في الشوارع أو نجلس في مقهى (المحشي) أو مقهى المحطة، وهو ما خفف عنهما في ذلك العهد حسبما اعتقد مرارة العزلة و عذاب التوقيع اليومي على دفتر الحضور بمركز الشرطة، و أنست معهما بالحديث عن طرائف السجن و مصائبه. الا أن دعوة على ورقة حمراء أعرفها جيدا حطت على باب بيتنا ذات يوم تدعوني الى الحضور الى مركز الشرطة لأمر يهمني، فتوكلت على الله و استقبلني مفتش دمث الأخلاق كتب على الراقنة كل تاريخ حياتي البسيطة العادية و عند ما سألته عن شرف تلك الزيارة، أسر لي في أدب بأن هناك (استفيدات) وصلت الى العاصمة تفيد بأنني شيوعي ! فأقسمت للرجل أني عدو لدود للشيوعية و لكل الايديولوجيات و ما استصحابي لأبناء بلدي الخارجين من السجن سوى من باب أصول الصداقة و المواساة لا غير. أما الحدث الخارجي فهو قيام ثورة الربيع في تشيكسلوفاكيا على يد الزعيم الليبرالي الجريء دوبشاك، حيث شرعت أنشر في الصحف و المجلات تعريفا بالحركات المنشقة في روسيا و بلدان المعسكر الشيوعي، يملأها الحماس التلقائي للحرية. ودأبت على ذلك المنهج الى بدايات السبعينات حين تلقيت دعوة من الكاتب المصري الراحل يوسف السباعي أنا و الكاتب التونسي الأستاذ مصطفى الفارسي كعضوين في الهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين انذاك للمشاركة في أعمال مؤتمراتحاد الكتاب الافريقي الأسيوي الذي ينعقد عام 1972 في مدينة( ألما أتا) بالاتحاد السوفييتي ،و كان السباعي رئيسا لذلك الاتحاد، و وعدت نفسي بالتألق في ذلك المؤتمر بسذاجة شاب عربي يكتب أدبا محليا تهبط عليه نعمة الحضور في محفل الأدباء الذين كان يطلق عليهم لقب التقدميين! لكن الرجاء خاب حين عتبت مقر السفارة السوفييتية بتونس طالبا التأشيرة ، و لأول مرة في حياتي شاهدت الباب الذي ينفتح بالريموت، حيث استقبلني الملحق الثقافي المستعرب تحت صورة كبيرة للرفيق ليونيد بريجنيف ، و قال لي بابتسامة صفراء: اننا منحنا تأشيرة للأستاذ الفارسي وليس لدينا اذن بمنحك التأشيرة مع الأسف، وأمام الحاحي أسر الي الرجل بأن السفارة تتابع بقلق و امتعاض مقالاتي عن المنشقين المنحرفين والمرضى النفسيين من المثقفين المعادين للشعب و للجنة المركزية للحزب الشيوعي ! و هكذا سافرالزميل الى الجنة الماركسية و بقيت أنا في تونس أواصل التعريف بروايات الكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين الذي كان يقول بأنه يأتي يوم و ينهار هذا البناء المزيف الذي اسمه الاتحاذ السوفييتي لتعود الروح الى روسيا الخالدة ! وبعد ثلاثة عقود و نصف أحمد الله على أنه أعطى الحق لسولجينتسين الذي سحبت منه أنذاك الجنسية السوفييتية كما سحبت مني تأشيرة الدخول للجنة الاشتراكية. و ما زلت أنا نفسي متعجبا من أمر بسيط وهو كيف كانت لنا نحن الشباب تلك الرؤية التي صدق عليها التاريخ في حين غابت عن كثير من الكبار الذين يقودون العالم ! *تاريخ النشر على الوسط التونسية 20 يناير/جانفي 2007