بقلم فيصل البعطوط آفة الأخبار، رواتها.. والآفة أيضا عندما يصوم الرواة عن الإخبار أحيانا وآخرها عندما صمنا عما بات يعرف بحادثة سيدي بوزيد، التي أثارها أحد النواب في وجه وزير الداخلية مما ترك السبيل مفتوحة أمام التوظيف والمزايدة... بداية، دعنا نرجو من العلي الكريم ان يشفي هذا الشاب الذي دفعه الاحباط إلى محاولة حرق نفسه امام الملا... ندعو له باستعادة موفور صحته، لأن البلاد تحتاجه، كما تحتاج لسائر أبنائها.. وفي بداية ثانية... اعترف في ما يهمنا كأسرة تحرير اننا اخترنا عدم نشر وقائع الحادثة التي بلغتنا في الإبان لأننا ارتأينا بأن مساوئ النشر أكثر من منافعها ثم لعدد من الأسباب الأخرى اعتقدنا بأنها وجيهة... وفي مقدمة تلك الأسباب ذلك التلاطم العنيف، بين ما يمكن اعتباره حادثة محاولة انتحار فردية.. وبين ما يمكن قراءته وراءها من التباسات خصوصا عندما ترتبط بشاب اضطره هاجس البحث عن شغل، لمخالفة التراتيب والقوانين البلدية.. فإذا بالقضية تصبح ذات وجهين.. واحد مشروع وثان غير مشروع ! كانت الخشية من أن ينحرف الإخبار عن مساره ، فيصبح نشرها كضرب من تقديم الأمثلة السيئة والملتبسة في مجتمع يحتاج إلى من يساعده على الفهم، أكثر من حاجته لمن يصب الزيت على النّار... هكذا هي الأمور.. في بعض الأحيان، يجد رواة الأخبار أنفسهم بين المطرقة والسندان، مضطرين إلى اتخاذ القرارات العسيرة، وعارفين مسبقا بأن هناك من سوف لن يرضى.. ليس فقط لأن القرار كان غير صائب.. بل أيضا لأن هناك دائما من يصطاد في المياه النظيفة والعكرة !. أعود الى مفارقة الاحتكاك بين ما هو حق، وما هو واجب أو حق الآخر.. ذلك الحق الإنساني المقدس في الشغل.. وواجب عون التراتيب البلدية في منع الفوضى بقوة القانون، أي صيانة حق الآخر.. والواقع أن الصورة كما نراها، لا ينقصها التعقيد... يتداخل فيها الإنساني مع القانوني.. وتتشابك فيها الخيوط الرفيعة.. فتتعسر مهمة التمييز بين ما هو منطقي، وبين ما هو هتك للمنطق.. تماما مثل السؤال: هل يجوز التغافل عن تطبيق قانون المرور على شخص بحجة ان شدة الإحباط التي ألمت به ساعتها، اضطرته الى حرق الإشارة؟! لنتخيل قليلا من الأمثلة في هذا السياق وسنرى أنها ستصل بنا في منتهاها إلى أن كل شيء سيصبح قابلا للتفاوض وللنقاش.. حتى إذا وصل الأمر لأن تمتنع عن دفع مبلغ الزيادة في سعر الوقود، بحجة اننا لسنا مقتنعين بتلك الزيادة!! أريد أن انتهي للقول هنا، بأنه إن كان العدل أساس العمران... فإن احترام القانون.. أساس المدنية، كما امان الناس وأمنهم رهن بقوة القانون... حادثة سيدي بوزيد الأليمة، لا تكشف فقط هذا الضيق الذي يحاصرنا جميعا... فيها وجه آخر ربما هو التقصير في التواصل مع الشباب.. ذلك أن هذا الشاب الذي وصل به الأمر إلى أن يهلك نفسه، لابد أنه اصطدم قبل ذلك بحالة من الاهمال والإحباط، مردها أنه لم يجد من يمد له يد المساعدة الفورية... ليس المطلوب من الإدارة ومن القائمين عليها أن يكونوا مالكين لعصا موسى... لكن المطلوب وبقوة، مراجعة أدوات التواصل بينهم وبين شباب فائر، يريد عن حق وعن غير حق تلبية مطالبه على الفور وبدون تأخير.. لست أملك وصفة لأدوات التواصل المطلوب.. لكنني أدعو لإعمال العقل، وللاستنجاد بذكاء إداري آخر.. يحسن التعاطي مع طلبات الشباب ولا يركن إلى الدّعة، لمجرد الاعتقاد بأنه كان قد أحسن التعامل في السابق مع طلبات أولياء هؤلاء الشباب ! أما أبشع الوجوه التي ظهرت من وراء حادثة سيدي بوزيد... فهي البدائية السياسية التي رانت على ردود أفعال أحزاب وشخصيات..قفزت على الحادثة، وركبت مأساة شاب بريء من أجل ان تقبض الهواء ! يا لسوء التقدير المذهل، ويا لذلك التعاطي العاقر الذي لا يمكن إلا أن يصيبنا بالجزع، نجزع إذا كانت البعض من نخبنا تعتقد فعلا ان محاولة انتحار ملتبسة في الشارع، يمكن ان تصبح حصان طروادة لاختراق حصون المنافسين ! فالحديث عن «انتفاضة» مثلا خطأ فادح في التوصيف يتبعه الغاوون.. ثم خطأ أفدح في التوظيف.. ولأن ما يتأسس على باطل فهو باطل فقد كان على الخطّائين التحلي بالصبر والتزين بالعقل وبضبط النفس، وليس الانقضاض الساذج على ما شبّه لهم بأنها فرصة.. فإذا بهم في وضعية تسلل فاضح، لا تخطئها عين.. ولا داعي هنا لمزيد رشّ الملح في الجرح... فقد كان ومازال نازفا، طالما أن بعض النخب تستسهل التربص بالأحداث من فوق الربوة.. فتهرع للتوظيف الإعلامي في الخارج.. في حين سيتعصي عليها البحث في ما ينفع الناس... او تقديم البدائل المفيدة... ومهما كان وجرى، فإن حادثة سيدي بوزيد أشعلت الأضواء الصفراء أمام الجميع كي يعدّلوا ساعاتهم.. وكي يستوعبوا الدروس، دون تهويل ولا تهوين.