الانطباع الأول الذي خالج كل من استمع لخطاب الرئيس بن علي في الذكرى العشرين للتغيير هو قوة الإرادة السياسية التي تحدوه في المضي قدما على نهج الإصلاح السياسي وصدق قناعاته الديمقراطية التي عبر عنها بكلمات واضحة، شفافة وجريئة تنفذ مباشرة إلى الوجدان وتجاوبت مع آمال وتطلعات كل التونسيين. هذا الانطباع ظل راسخا في الوجدان عندما ختم سيادة الرئيس خطابه بالتأكيد على أنه "لا مجال للظلم والتجاوزات ولا مجال لاستغلال النفوذ، كما أنه لا مجال للرأي الواحد والفكر الواحد واللون الواحد، ولا مجال للاستقالة عن المشاركة لأن تونس في حاجة إلى جهود كل أبنائها وبناتها". وهذا الوضوح وهذا الصدق في التعبير وهذه الجرأة في المواقف وفي المبادرات ميزات لافتة اتسم بها خطاب الرئيس بن علي قطعت مع اللغة الخشبية السائدة في مشهدنا السياسي والإعلامي وتؤكد مجددا وان مواقف ورؤى الرئيس بن علي تبقى على مسافات جد متقدمة عن مواقف وخطب الطبقة السياسية في تونس المتسمة في أغلب الأحيان بالتخشب والسفسطة ورفع الشعارات التي ملها الناس. الإجراءات السياسية التي اتخذها الرئيس بن علي في ذلك الخطاب، إجراءات هامة ستعطي بالتأكيد دفعا قويا للمسار الديمقراطي في البلاد وانتعاشة جديدة ومنتظرة للحياة السياسية. أهم هذه الإجراءات في تقديرنا هي: 1- دعم حرية الفكر والإبداع بإلغاء الرقابة الإدارية على الكتب والمنشورات والأعمال الفنية عند الإيداع القانوني ليبقى القضاء هو المرجع الوحيد الساهر على تطبيق القانون في هذا المجال وهذا الإجراء سيفتح آفاقا جديدة للحركة الفكرية والفنية في البلاد باعتبار وأن الإبداع والخلق لا يزدهران إلا في مناخ الحرية وهذه المبادرة تترجم عن قناعة رئيس الجمهورية بأن الثقافة هي سند للتغيير. 2- ترسيخ الخيار التعددي باعتباره خيارا استراتيجيا لا رجعة فيه راهن عليه الرئيس بن علي في مشروع التغيير وهذا الرهان ترجمه عبر قرارات غير مسبوقة تدعم وتوسع حضور المعارضة داخل المؤسسات المنتخبة وأعلن في هذا السياق عن الترفيع في الدعم العمومي المسند للأحزاب السياسية الممثلة بمجلس النواب ولصحافة تلك الأحزاب كما قرر الترفيع في حصة المعارضة داخل مجلس النواب لتبلغ ربع المقاعد كحد أدنى وحدد سقفا لحزب الأغلبية لا يتجاوز 75% من المقاعد داخل مجلس النواب والبلديات كما اتخذ الرئيس بن علي إجراء تاريخيا بتخفيض السن الدنيا للانتخاب من 20 سنة إلى 18 سنة وهذا الإجراء سيحفز شرائح واسعة من الشباب للخروج من هامشيتها قصد المشاركة في الحياة السياسية عبر التصويت في الانتخابات العامة - كما لا يفوتنا التنويه بإجراء جريء آخر يشجع التمييز الإيجابي لفائدة المرأة عبر تخصيصها بحصة 30% من القائمات الانتخابية التي سيتقدم بها التجمع الدستوري الديمقراطي في الانتخابات القادمة. ان جملة هذه المبادرات الرئاسية التي ستتبلور في سياق مشاريع قوانين قادمة ستتقدم بالمسار الديمقراطي في تونس خطوات كبيرة ضمن مقاربة تتوخى التدرج في الإصلاحات لتحصينها من مخاطر الانزلاقات والانحرافات وهي مقاربة أكدت الأحداث إقليميا ودوليا صوابها وصحتها. ويمكن الجزم وأن جملة هذه الإصلاحات وفرت لتونس إطارا قانونيا للممارسة الديمقراطية فريدا من نوعه في العالم العربي على مستويين على الأقل: نسبة مشاركة المرأة التي سترتقي إلى 30% من المقاعد في قائمات حزب الأغلبية بمناسبة الانتخابات العامة لسنة 2009 ونسبة تمثيل الأحزاب المعارضة داخل المؤسسات المنتخبة (مجلس النواب والبلديات) والتي تعادل ربع المقاعد على الأقل مهما كان عدد الأصوات التي ستحصل عليها في الانتخابات القادمة وهذا يترجم عن حقيقة أجمع حولها جل الملاحظين والمراقبين وهو ان مسار الإصلاح السياسي في تونس يتمّ وفق سياسة إرادية من رئيس الدولة وانه لولا قوة الدفع التي تمثلها مؤسسة الرئاسة فإن أحزاب المعارضة في تونس بسبب ضعفها الهيكلي ومحدودية إشعاعها في الشارع التونسي عليها أن تنتظر عقودا أخرى حتى تكتسب نسبة التمثيل التي أصبحت آلية بموجب القانون الانتخابي. وهذا يدفعنا إلى القول وأن الكرة الآن هي في ملعب أحزاب المعارضة وان الإصلاحات السياسية التي أذن بها رئيس الجمهورية تحمّل تلك الأحزاب وسائر القوى الحية في البلاد مسؤولية رفع التحدي بالارتقاء إلى مستوى انتظارات رئيس الدولة منها بتأكيده وان "الأحزاب السياسية في الحكم وفي المعارضة هي أطراف المعادلة الديمقراطية والتنافس النزيه، ولا بد لها أن تكون في مستوى من الفاعلية يخول لها الاضطلاع بأدوارها على أفضل الوجوه" وهي مطالبة في تقديرنا إلى توظيف جملة الحوافز والتشجيعات القانونية والمالية المسندة لها لاحداث النقلة النوعية المنتظرة منها وذلك: - بتطوير خطابها السياسي وتعصير وسائل عملها بالقطع مع اللغة الخشبية وتكريس ثقافة ديمقراطية حقيقية داخلها أولا قبل نشرها على الناس قوامها حرية الرأي واحترام حق الاختلاف والتعبير. - ابتكار برامج ورؤى سياسية جديدة وعصرية تحرك وتجذب الشباب وسائر الشرائح الاجتماعية بعيدا عن الشعارات المستهلكة، وتعبر عن نبض الشارع وتعكس تطلعاته ومشاغله. - إعادة صياغة وتشكيل مفهوم المعارضة في بلادنا فلا يعقل أن تتحول بعض الأحزاب الى نسخ مشوهة من الأصل الذي يمثله التجمع الدستوري الديمقراطي دون شخصية ورؤى تميزها عنه كما لا يعقل أن تختص أحزاب أخرى في رمي الحجارة على السلطة والاكتفاء بالاحتجاج وتضخيم النصف الفارغة من الكأس دون تقديم البدائل والمقترحات. والملفت للانتباه وان الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها الرئيس بن علي في خطابه لم تتوقف عند الحقوق السياسية المتصلة بالخيار التعددي والتي تستجيب لمطالب تبقى رغم كل شيء نخبوية تهم ما اصطلح على تسميته بالطبقة السياسية، بل ان تلك الإجراءات ذهبت إلى أبعد من ذلك لتشمل الحقوق الأساسية للمواطن في حياته اليومية وهذا يترجم مرة أخرى عن البعد الشمولي لمنظومة حقوق الإنسان في فكر الرئيس بن علي ويمكن اختزال المبادرات المتخذة في هذا المجال في المحاور التالية: 1- توفير ضمانات فضائية حقيقية تحد من أي تعسف عندما تتخذ النيابة العمومية أو قاضي التحقيق قرارا بإيقاف أو إيداع مواطن مشتبه به في السجن وهو ما يعبر عنه في القانون بالاحتفاظ والإيقاف التحفظي - فالاحتفاظ بمحلات الشرطة والإيقاف التحفظي بالسجن لم يكونا محددين بمدة زمنية قبل التحول فأذن الرئيس بن علي مباشرة بعد التغيير بسن قانون يضع حدا زمنيا لا يمكن تجاوزه حفظا لكرامة المواطن الذي تعلقت به شبهة أو تهمة وعملا بالقاعدة القانونية التي تعتبر حجر الزاوية في دولة القانون وهي قرينة البراءة أي أن المتهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته - في هذا الإطار يندرج مشروع القانون الذي أذن به رئيس الدولة والذي يوجب تبرير وتعليل أي قرار قاضي بالتمديد في فترة الاحتفاظ أو بالإيقاف التحفظي في السجن - وهذا المشروع سيكون من نتائجه المباشرة الحدّ من اللجوء إلى تلك القرارات السالبة للحرية وبذل عناية أكبر عند دراسة الملفات وتكييف الوقائع. 2- استبدال العقوبة بالسجن بعقوبة تعويضية في جبر الضرر بالنسبة للمخالفات والجنح البسيطة وهذا القرار يندرج ضمن إصلاح تشريعي شامل يهدف إلى جعل العقوبة بالسجن استثناء في الجرائم والجنح الخطيرة التي تستهدف الأشخاص والممتلكات في حين أن الجنح البسيطة مثل المخالفات المرورية أو الجنح الاقتصادية التي يمكن أن يكون أي مواطن عرضة لها فإن تسليط عقاب بالسجن مهما قصرت مدته يمثل مأساة حقيقية وإهدارا للطاقات البشرية ويكفي في هذه الحالات الحكم على المتهم بالتعويض لفائدة المتضرر. 3- اضفاء مرونة أكبر في شروط استرداد الحقوق وهذا القرار يهم شريحة هامة من المجتمع ممن زلت بهم أقدامهم وهذه الشريحة تواجه صعوبات ومتاعب جمّة بعد قضاء العقوبة بالسجن لتجد عقوبة أخرى ربما تكون أشد وهي عقوبة المجتمع الذي يرفض إدماجها من جديد في دورته الاقتصادية والاجتماعية - ومن هنا يتنزل قرار رئيس الدولة بإعداد مشروع قانون يخفض من المدة المشترطة للحصول على استرداد الحقوق وتيسير الحصول على بطاقة السوابق. 4- إحداث فضاءات خاصة للأم المحكوم عليها بالسجن عندما تكون حاملا أو مرضعة وهو قرار يكتسي بعدا إنسانيا كبيرا سينقذ العديد من الأمهات الحاملات أو المرضعات المحكوم عليهن بالسجن من مآس مؤثرة فأي ذنب اقترفه الحمل أو الرضيع عندما يجد نفسه محشورا مع أمه في نفس الزنزانة بالسجن في حين أن تلك الوضعية الإنسانية تتطلب رعاية صحية ونفسية ضرورية تحافظ على رابطة الأمومة وبفضل مشروع القانون الذي أذن به رئيس الدولة فإن هذا الصنف من السجينات سيقع انتشاله من الفضاء السجني لإيوائه بفضاءات خاصة لرعايته طيلة فترة الحمل والرضاعة. بمثل هذه الإجراءات الحقوقية والسياسية كان الرئيس بن علي من جديد في الموعد ليخطو بالمشروع المجتمعي الذي وضع معالمه في بيان السابع من نوفمبر خطوات هامة وحاسمة على طريق استكمال بناء دولة القانون والمؤسسات وفتح مرحلة جديدة: مرحلة المنعرج الديمقراطي. (*) حقوقي وعضو مجلس المستشارين