منذ سقوط نظام بن علي سقطت الأقنعة، وبدأت تنكشف حقائق الظلم، والاضطهاد والفساد كما بدأت عدة حقائق أمنية مثيرة عمل النظام السابق على طمسها بكل الوسائل مستغلا بذلك سيطرته التامة على جل دواليب الدولة. لكن التاريخ لا يرحم فالآلاف ممن ظلموا في العهد السابق ما زالو أحياء ليشهدوا بالظلم الذي لحقهم ويكشفون حجم المؤامرات التي كانت تحاك ضدهم وضد الشعب التونسي.. ولعل من أبرز من تعرضوا للظلم والقهر خلال حكم النظام السابق هم كوادر عليا وكفاءات شريفة من العسكريين حوكموا ظلما وبهتانا وزج بهم في السجن وتعرضوا لشتى انواع التعذيب واقتلعت منهم اعترفات تحت التعذيب في ما بات يعرف بقضية حركة النهضة في بداية التسعينات التي اتهمت فيها الحركة بالإعداد لانقلاب على نظام بن علي بالتعاون مع أفراد من أجهزة الأمن وعسكريين في مختلف الرتب. لكن شهادات هؤلاء تفند صحة ادعاءات النظام السابق الذي سعى إلى تخويف الناس وتثبيت اركان الحكم من خلال تصفية جميع خصومه وتركيع جميع المؤسسات وتطويع السلطات في خدمة آلته القمعية. في هذه الحلقة ننشر شهادة السيد محمد صالح الحدري وهو عقيد متقاعد اتهم باطلا بأنه العقل المدبر لحركة النهضة لتنفيذ خطة قلب نظام حكم بن علي سنة 1991. ويؤكد في هذه الشهادة كيف انه زج به ظلما في السجن مع مجموعة من رفاقه العسكريين بتهمة الانتماء لحركة النهضة والتآمر على أمن الدولة.. وذلك بهدف احاكم بن علي قبضته على الحكم وتصفية الضباط الشبان على حد تعبيره. والعقيد الحدري متخرج من مدرسة الإدارة العسكرية بمونبلييه، ومدرسة المشاة بفرنسا، ومن مدرسة الرقباء بفورنوكس، ومن مدرسة القيادة والأركان لافن وورث بالولايات المتحدة، متخرج من المدرسة الحربية العليا بباريس وديبلوم دراسات معمقة من معهد العلوم السياسية بباريس. اشتغل 5 سنوات في خطة استاذ بالأكاديمية العسكرية، و5 سنوات مستشار عسكري لدى الوزير الأول، كما شارك في حرب أكتوبر 1973 كآمر سرية لمدة 4 أشهر مهمة الدفاع عن بور سعيد. يعود لنا العقيد الحدري إلى بداية التسعينات ويروي تفاصيل جديدة لم تنشر عن حقيقة المحاكمة "الصورية والمفبركة لعشرات من الأبرياء بتهمة الانتماء لحركة النهضة المحظورة" حسب تعبيره. ويقول " بن علي كان خائفا من الضباط الشبان، أمضى فترة عمله في الجيش يتجسس على زملائه..لم يكن محبوبا بالمرة"، وذكر أن "حزب التجمع الدستوري أعد خطة للقضاء على حركة النهضة، وكان سيناريو الخطة يتمثل في اتهام الحركة بانتداب كوادر من الجيش والشرطة والديوانة لتنفيذ انقلاب ضد بن علي وتنصيب راشد الغنوشي زعيم الحركة بدلا عنه، وتم الإعداد مسبقا لاتهام العقيد محمد صالح الحدري كعقل مدبر في تنفيذ مخطط الانقلاب. السرياطي والقلال.. وكشف الحدري أن حزب التجمع ووزارة الداخلية (التي كانت تحت امرة وزير الداخلية عبد الله القلال) وبتواطئ مع علي السرياطي الذي كان برتبة عقيد في الجيش وتم تعيينه مدير عام الأمن الوطني سنة 1991، كانوا جميعا وراء عملية الاعداد المحبكة لتصفية الشبان في الجيش الوطني واتهامه زورا وظلما وتحت التعذيب بمشاركتهم للتحضير لانقلاب عسكري ضد نظام بن علي. وقال " منفذ عملية تصفية الضباط الشبان وضباط الصف كان مدير عام للأمن العسكري، بالتواطئ مع رئيس اركان جيش البر آنذاك". وكانت جل التهم الموجهة للموقوفين هي الانتماء الى حركة النهضة وتكوين خلايا صلب الجيش للتحضير لانقلاب عسكري وتنصيب راشد الغنوشي على راس الدولة والتآمر لإسقاط النظام.. علما أن جل الاعترافات كانت تتم تحت التعذيب الوحشي، حسب العقيد الحدري الذي أشار أن قرابة 80 من عناصر الجيش تم محاكمتهم في محاكمة اوت 1992اضافة الى اعداد كبيرة من المنتسبين للداخلية والديوانة..وترواحت الأحكام بين عام و14 سنة. محاكمة صورية.. وحسب محدثنا فإن المحاكمة "كانت صورية وكان الهدف منها تصفية حركة النهضة وتلويث سمعتها والصاق تهم الارهاب بها بعد تحقيقها لنتائج مهمة في انتخابات 1989." ويضيف قائلا "اعتقلت 51 يوما في دهاليز وزارة الداخلية ذقت خلالها شتى انواع التعذيب لحملي على الاعتراف وكان عبد الله قلال وزير الداخلية موافقا على عملية التعذيب،.." ويتذكر العقيد كيف انه كان شاهدا على عملية تعذيب المدعو عبد الرؤوف العريبي حتى الموت وكان استاذ تربية دينية ينتمي لحركة النهضة وقال "كنا في نفس الغرفة رقم 9 في قبو وزارة الداخلية..شدوه نصف نهار وجابوه آخر العشية فاقد الوعي وكانت آثار التعذيب والضرب المبرح بادية على وجهه وتوفي ليلتها بسبب التعذيب، بين يدي وكان ذلك في أفريل 1991". ويضيف"عندما احالوني على حاكم التحقيق زوروا تاريخ الايقاف ووضعوا 5 جوان 1991، عوضا عن 21 أفريل 1991 حتى تبدو عملية الايقاف التحفظي قانونية، وحين وقفت أمام رئيس المحكمة أقر أن تاريخ الايقاف تم فعلا في 21 أفريل لكنه لم يسجله في محضر الجلسة." من المفارقات العجيبة أن الندوة الصحفية الشهيرة التي عقدتها وزارة الداخلية تمت بتاريخ 22 ماي 1991 وكشفت فيها ما يسمى ب"خيوط المؤامرة" في حين أن تقرير محضر الجلسة الذي أحيل ضدي تضمن تاريخ الايقاف يوم 5 جوان.. ممنوع من جواز سفر منذ 11 سنة ويواصل العقيد السابق سرد روايته قائلا " حكموا علي 8 سنوات سجنا أمضيتهم في عدة سجون وخرجت في 5 جوان 1999، من وقتها حرموا علي الحصول على جواز سفر. ولم استرجعه الا بعد قيام الثورة الشعبية المباركة، وخاصة بعد ان هددت بتنفيذ اضراب جوع امام مركز برج العامري بتاريخ 28 جانفي 2011." ويؤكد العقيد المتقاعد أن "حاله لا يختلف كثيرا عن حال بقية الضباط الشرفاء الذين حوكموا ظلما واضطهدوا، حتى أن الذين لم يحاكموا وعددهم يقدر ب 130 شخصا من مختلف الرتب نكلوا بهم وطردوهم من الجيش على غرار الكولونيل غيلوفي، الذي حوكم وعذّب لأنه ببساطة كان مسقط رأسه مسقط رأس راشد الغنوشي، وهو منطقة الحامة، رغم أنه لم يكن له أية علاقة بالغنوشي. ويعود العقيد محمد صالح الحدري إلى سيناريو محاكمة أوت 1992، وقال " تمثل سيناريو الاتهام في الترويج لحصول اجتماع سري من قبل 70 ضابطا يوم احد في برّاكة الساحل وترأس الاجتماع الرائد سالم كردون كان الهدف منه وضع خطة، علما أن هذا الأخير تم تعذيبه للاعتراف باطلا عن تفاصيل الاجتماع، لكن رئيس المحكمة العسكرية التي كان ترأسها القاضي كدوس، رفض الاستماع إلى شهادة الرائد، حول حقيقة ايقافه وهو ما يدل على أن المحاكمة كانت صورية". ويؤكد محدثنا أن " ملف القضية كله مزور وكان محامي الدفاع قد طالبوا حينذاك يايقاف المحاكمة لأنها باطلة ومبنية على باطل بسبب التجاوزات القانونية التي ارتكبها البحث الأولي من أمن الدولة." ويضيف " أثناء المحكمة وحتى قبلها تمت مساومتي بتقديم طلب عفو رئاسي مقابل محاكمتي لمدة عامين سجنا فقط، لكني رفضت وكنت أصر على براءتي حتى اني طلبت من الرئيس بن علي وقتها ان يعتذر لي شخصيا." العقيد ينوي رفع دعوى قضائية ضد جلاديه وكل من تسبب في دخوله السجن وتعذيبه.