بعد الشهادة الخطيرة التي أدلى بها ل"الصباح" العقيد المتقاعد محمد صالح الحدري الذي اتهم بوصفه العقل المدبر للتحضير لانقلاب ضد حكم بن علي سنة 1991، نواصل اليوم نشر شهادات أخرى من ثلة من إطارات عسكرية متقاعدة تعرضت للظلم والتعذيب والتنكيل رغم ثبوت براءتهم من كل ما نسب إليهم ونالوا من القهر الشيء الكثير قد لا تكفي بعض كلمات وصف حجم المعاناة التي ما يزالون يعيشونها إلى اليوم ودفعوا بسببها من حياتهم ومن حياة عائلاتهم وأبنائهم وكرامتهم الكثير وليس من باب الصدفة أن تكون امنيتهم الوحيدة الآن بعد قيام الثورة الشعبية ورحيل الطاغية محاكمة جلاديهم جميعا محاكمة ترد لهم الاعتبار والنزر القليل من العذاب الذي نخر اكبادهم طيلة سنوات عديدة من حكم الرئيس السابق..علما أننا حاولنا قدر المستطاع نقل بعض الشهادات التي لا يكفي المجال للحديث عن كل تفاصيلها... ويتفق العسكريون المتقاعدون الذين اتصلوا ب"الصباح" لكشف جانبا ولو قليلا من الظلم الذي عانوه، أن شهاداتهم ستورط بما لا يدع مجالا للشك الرئيس السابق بل الأخطر من ذلك ستضع وزراء سابقين ومسؤولين أمنيين كبارا وصغارا موضع اتهام بصفتهم مارسوا التعذيب والظلم ضد مئات الأبرياء وساهموا في صنع مؤامرة ومسرحية الانقلاب العسكري المزعوم وتفننوا في صياغة فصولها. ويكشف كل من العقيد منصف الزغلامي والمقدم محمد أحمد، والعقيد محسن الكعبي، والنقيب محمد الحازمي وغيرهم، في شهاداتهم تفاصيل جديدة عن مؤامرة بن علي في السنوات الأولى لاعتلائه دفة الرئاسة لتشويه سمعة المؤسسة العسكرية من خلال تصفية من يعتقد أنهم يشكلون خطورة على بقائه في السلطة، فضلا عن سعيه لإسكات صوت الحركات المعارضة في مسعى وقائي لتأبيد بقائه الطويل في السلطة بالتعاون مع عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين النافذين في ذلك الوقت. ويؤكد العقيد محسن الكعبي انه اعتقل يوم 15 ماي 1991 ووضع بالسجن العسكري بالعوينة حتى يوم 24 جوان الذي يوافق عيد الجيش الوطني حيث تم نقله إلى دهاليز وزارة الداخلية للتحقيق معه وهو اليوم الذي لن ينساه ابدا باعتباره يوم بداية عملية التعذيب التي استمرت إلى يوم 11 جويلية 1991 ولفقوا له ثلاثة اعترافات تحت التعذيب مثل بقية الضباط الشبان في ذلك الوقت وهي الانتماء لحركة النهضة وتحضير وتوزيع المناشير والمشاركة في عملية باب سويقة التي حرق فيها مقر الحزب الدستوري آنذاك.. وطبعا نفى الكعبي قطعيا اية صلة له بحركة النهضة او أي حركة اخرى، حتى اطلق سراحه مع ثلة من الضباط الآخرين مع الوعد بتسوية وضعياتهم حسب ما ينص عليه القانون. لكن في أفريل 1992، تم استدعاء العقيد الكعبي مرة ثانية إلى الإدارة العامة للأمن العسكري التي طلبت منه الاختيار بين أمرين اما تقديم استقالته (والتنازل عن كامل الحقوق) أو طلب الإحالة على مجلس التأديب ليدين نفسه بنفسه وهو ما يتنافى مع القانون، لكنه رفض كلا العرضين. وطرد من الجيش صحبة 10 من زملائه دون الحصول على ادنى الحقوق بعد ان سحبوا منهم جميع الوثائق الثبوتية دون تسليمهم قرارات الإحالة على التقاعد بسبب القصور المهني حسب ادعائهم.. لكن الضباط المطرودين قرروا تقديم شكوى إلى المؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان مثل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة العليا لحقوق الإنسان وإلى رئاسة الجمهورية، لكن دون جدوى لكن تم تسوية وضعياتهم بصفة جزئية بعد تهديدهم اللجوء إلى منظمات ومؤسسات دولية لحقوق الإنسان وقناة الجزيرة لأن وزير الدفاع الغى قرار التقاعد بسبب القصور المهني وعوضه بقرار الإحالة على التقاعد الوجوبي دون مفعول رجعي وبالتالي حرموا من احتساب 8 سنوات من التقاعد. ورغم حصول المجموعة على حكم بات من المحكمة الإدارية للغرض إلا انه لم يجد طريقا للتنفيذ إلى يومنا هذا، فضلا عن قيامهم برفع قضية تعويضية ما تزال جارية. ما يشترك فيه هؤلاء المظلومين هو تعرضهم حتى رغم اطلاق سراح البعض منهم إلى ازمات نفسية حادة، لعدة أسباب من أبرزها شعورهم بالاهانة حين نزع عنهم اللباس العسكري ورتبهم العسكرية والقيت في قمامة وزارة الداخلية وهي من أقسى الاهانات واصعبها هضما، علاوة على اجبارهم على وضعهم تحت المراقبة الإدارية والتوقيع يوميا بمراكز الشرطة، وحرمانهم من جوازات السفر، وصعوبة اندماجهم الاجتماعي بسبب نظرة المجتمع اليهم كأنهم متهمين حقيقيين، والدمار الذي أصاب معظمهم صحيا وماديا وامتد إلى عائلاتهم واقاربهم.. حال المقدم المتقاعد محمد أحمد والذي كان قبل اعتقاله يشغل خطة رئيس قسم المخابرات والأمن بأركان جيش البر لا يختلف كثيرا عن حال بقية الضباط الأكفاء الذين من سوء حظهم تم انتقاؤهم لتصفيتهم وتحطيمهم وابعادهم نهائيا عن المؤسسة العسكرية التي حرمت من خبراتهم وكفاءاتهم لسنوات طويلة.. واعتقل المقدم أحمد يوم 22 ماي 1991 ولم يعلم سبب الاعتقال الا حين وصوله إلى مكاتب جلاديه بوزارة الداخلية، وطبعا كان عليه الإجابة على سؤالين، الأول متى تم استقطابه من حركة النهضة، وماهي الاجتماعات التي حضرها مؤخرا؟. ويقول " نزع عني الزي العسكري، والبسوني لباسا مدنيا واقتادوني إلى دهاليز الداخلية، قبل أن يأتوا لاحقا ليلا للقيام بعملية التعذيب لانتزاع اعترافات..كان يطلب مني ذكر أسماء، وتواصل التعذيب أسبوعين..شخصيا تعرضت لتعذيب خاص لأني رئيس قسم المخابرات وأنتمي لجهة قفصة، في وسط الأسبوع الثالث من التعذيب، طلبوا مني كتابة تقرير وذكر تفاصيل عن اجتماع لا اعرف عنه شيئا، فشرعوا في تعذيبي..حتى قال أحدهم "قول براكة الساحل تونسيبوك"..ثم املوا علي كتابة التقرير تحت التعذيب اين اضافوا فيه اسماء عمداء ورئيس أركان".. ويضيف بتأثر شديد " قابلني حينها عبد الله القلال وزير الداخلية، وكنت من شدة التعذيب غير قادر على المشي فكنت مسندا من عونين وبدأ يحقق معي، وقال "قرأت التقرير يتضمن اشياء فظيعة". قلت له "اشكرك سيد الوزير لإتاحة الفرصة للدفاع عن نفسي وعن زملائي الضباط كل ما يوجد في التقرير وفي تقارير أخرى كتبت تحت التعذيب..لكنه سألني عن ضباط آخرين وعن ما إذا ما حضروا الاجتماع..لكني نفيت كل ما كتب في التقرير.. في النهاية أرجعوني إلى الدهليز وشرعوا في تعذيبي مرة أخرى لأني قلت الحقيقة لوزير الداخلية..وبعدها اطلق سراح المقدم بمعية 10 ضباط آخرين ووعدوهم بعودتهم إلى العمل وضمان حقوقهم، لكن رغم ذلك حصل العكس واحيلوا جميعا على التقاعد الوجوبي مع المراقبة الإدارية. باستثناء العقيد منصف الزغلامي الذي روى لنا بتاثر شديد تفاصيل 32 يوما من التعذيب المستمر لم ينتهي إلا بعد توقيعه على تقرير تضمن اعترافات مغلوطة، بعدها عاد إلى العمل لكن في غير خطته الأصلية بل في درجة دنيا ولم يتم احترام القانون العسكري بما انه نزعت عنه شارته العسكرية ورتبته الأصلية..