ربما يكون مصطلح «الثورة الثقافية» قد أصبح يرمز - تاريخيا - الى كل ما هو «انقلاب» على الحريات الفردية والعامة وعلى الحق في الاختلاف بدعوى «حماية الثورة» والدعاية لها والترويج لمقولاتها حتى لا يكون هناك صوت يعلو فوق صوتها... وما من شك أن أصرخ بل وربما أبشع «مثال» على هذا المعنى يتمثل في «مآثر» بل وجرائم ما عرف باسم «الثورة الثقافية» في الصين على عهد الزعيم الراحل «ماو تسي تونغ» وحرمه المصون... ولأن التاريخ قد قال «كلمته» في مثل هذه «الطلعات» الاستبدادية باسم - وهذه مفارقة - ثورات الشعوب وبين مدى عقمها وخطورتها - لا فقط - على الحريات والناس والمجتمعات (في «صين ماوتسي تونغ» وفي الاتحاد السوفياتي سابقا) بل وأيضا على الثورة ذاتها بصفتها فعل حرية وانعتاق فاننا سنبادر ابتداء ودونما تردد أو تلعثم بتنزيه ثورة الشعب التونسي البطل (ثورة 14 جانفي المجيدة) عن أن يكون لها أي وجه شبه أو صلة بمثل هذه المعاني و»الطلعات» الثورجية... ننزهها عن ذلك... ولكن دون أن ننفي أن لهذه الثورة العظيمة «بعدها» الثقافي أيضا... بمعنى أنها ثورة تأسست وقامت - وان عفويا - على قيم ومرجعيات أخلاقية انسانية كونية كبرى استبطنها الشعب التونسي وبخاصة جموع الشباب - المثقف وغير المثقف من الذين قادوا هذه الثورة - وجعلوا يتحركون بمقتضاها للقضاء على الفساد والاستبداد - من جهة - وعلى الأمية والتخلف والغباء السياسي والفقر الثقافي المدقع لنظام الديكتاتور بن علي وبطانته الفاسدة... وثورة 14 جانفي هي أيضا ثورة ثقافية بامتياز لأنها - في أحد جوانبها - جاءت تؤسس لمنطق سياسي جديد في التعاطي مع واقع الناس وهمومهم وقضاياهم وتطلعاتهم على هذه الرقعة من العالم... واقع قوامه الأخذ في الحسبان - لا فقط - بحق الشعب التونسي في أن يكون حرا وسيدا وكريما في وطنه بل وأيضا في أن يعيش في اطار دولة عصرية تحكمها قوانين مدنية وتتداول على مواقع المسؤولية فيها هيئات منتخبة ديمقراطيا تقطع مع كل اشكال التخلف السياسي والاستبداد تحت أي مسمى بما في ذلك مسمى «الشرعية الثورية» الذي تحاول بعض الأطراف اليوم أن تتمترس خلفه لاتيان ممارسات اقصائية في حق بعض خصومها الايديولوجيين... ممارسات تتناقض في العمق مع الأهداف السامية للثورة... بل قل هي ممارسات تكاد تبدو في ذاتها وكأنها ضرب من ضروب الانقلاب على الثورة وعلى دماء شهدائها بحكم أن الشعب الذي ثار بتاريخ 14 جانفي انما ثار أساسا للقضاء على كل اشكال الاقصاء والتهميش في مختلف صوره وتجلياته اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا... على أن ما يبدو فعلا بمثابة المفارقة في مسألة اثبات «الهوية الثقافية» لهذه الثورة العظيمة المتفردة و ذات الخصوصية أنها تبدو بالفعل ثورة «ثقافية»... ولكن دون أن يقودها مثقفو المرحلة بل هي قد تكون فاجأتهم ضمن من فاجأت... ومع ذلك فان كل ما فيها يحيل على أنها من «انتاج» الثقافة التونسية الصميمة منذ عشرينات القرن المنقضي... ثقافة الاصلاح والتنوير الاجتماعي والسياسي والديني منذ الطاهر الحداد والطاهر ابن عاشور ومحمد علي الحامي وأبي القاسم الشابي ووصولا الى بورقيبة... ان الشباب الذي فجر هذه الثورة وجعلها تنتصر هو شباب تغذى - تاريخيا - من فكر الحداد والطاهر ابن عاشور ومحمد علي الحامي وبورقيبة... شباب الحمية النقابية والاصلاح والتنوير والأخذ بالتكنولوجيا ووسائط الاتصال الحديثة...