بقلم: فؤاد غربالي « هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي لكي تقدموا لتونس مالم نقدم لها نحن...لأننا قد هرمنا..هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية». كلمات قيلت بنبرة حزينة ومدوية، رددها ذلك المواطن التونسي في قلب شارع الحبيب بورقيبة أمام كاميرا قناة الجزيرة، التي صارت تعيد بثها يوميا في معرض التذكير بأن «الربيع العربي» قد أزهر من تونس.كلمات الرجل الستيني الذي غزا الشيب شعره ،إختزلت اللحظة وعبرت عنها بعمق. فالحزن المخفي في النبرة كان التعبير الأمثل عن مأساة أجيال بأكملها عايشت دولة الإستقلال وولدت معها .أجيال ناضلت وحلمت بالديمقراطية ،والعدالة الإجتماعية ،ورفعت الشعارات من أجلها بل وإكتوت بنيران الديكتاتورية وتذوق عذابات سجونها ولكنها هرمت وغزاها الشيب وشعرت أنها قد فشلت في تجسيد شعاراتها التي رفعتها قبل أفول المقولات الكبرى وخفوت بريقها. جيل لم نعاصره «نحن» أبناء الجيل الذي ولد في منتصف الثمانينات وبداية تسعينيات القرن الماضي. الجيل الذي جربت فيه أسوأ السياسات التعليمية والثقافية، الأكثر فشلا في تاريخ تونس المعاصر، فجعلت منه جيوشا من العاطلين عن العمل ورمت ببعضه إلى أتون أمواج البحارلتأكله الحيتان في الطريق إلى الجنة الأوروبية الموعودة. .جيلنا لم يقرأ «رأس المال» لكارل ماركس و لايعرف من هو «ماوتسي تونغ» ومن هو «الخميني» ولا «سيد قطب» ولايعنيه في شئ صراع الطبقات وإنتصارديكتاتورية البلوريتاريا ولا «الكتلة التاريخية» لأنطوني غرامشي ولايريد أن يعرف هل أن «تروتسكي» كان تحريفيا أم لا؟ وهل أن الإسلام فعلا هو الحل؟ الجيل الجديد من الشباب، لم يترب في أتون الأنساق الإيديولوجية المغلقة، ولم تعد تنفع معه النزعة الأبوية المتسلطة التي تنحو نحو الضبط والرقابة ضمن مجتمع تراتبي وهرمي. بل إنه صار بإمكانه الإفلات من كل أشكال الرقابة والإكراهات التي كانت تفرضها المؤسسات التقليدية، ممثلة في العائلة والمدرسة والدين، بل وحتى الدولة نفسها. حيث بدأت هذه المؤسسات في الوهن، وفي فقدان صفتها الآمرة ،ولم تعد تنفع وعظياتها وينبغياتها ،ذلك أننا إنتقلنا بفعل التوطآت الحالية لصيرورة العولمة إلى المجتمع الشبكي كما يسميه مانويال كستال أين تفرض تكنلوجيات الإتصال حضورها من خلال ما تقدمه عبر فضاءاتها الإفتراضية من نموذج تواصلي جديد، لم تعد فيه التنشئة الإجتماعية عملية ممأسسة، بل عملية إختيارية وإرادية وذاتية، يميل عبرها الشبان أكثر فأكثر نحو تأكيد فرديتهم ،بعيدا عن كل أشكال السيطرة الفكرية والإجتماعية والسياسية. لهذا عندما وجدت الفئات الشبابية، خصوصا تلك التي تعيش في المدن وضواحيها الفقيرة، والمفتونة بقيم المجتمع الإستهلاكي وأخلاقياته نفسها ترزح تحت وطأة البطالة، والتهميش، وتستمع إلى خطاب سياسي منافق وشيزوفرني لاتتطابق مضامينه وشعاراته مع طموحاتها، و مع واقعها الذي تكابد مصاعبه يوميا بادرت إلى تحريك الغدير ومياهه المتعفنة عبر حركة إحتجاجية عبرت عن عمق المعاناة والألم الذي تختزنه. حركة تمثلت في سلسلة الإنتحارات المتتالية التي أقدم عليها شبان خاب أملهم من دولة لم تنجح في التعامل مع مطالب المجتمع سوى عبر توظيف الآلة الأمنية التي إنكسرت تحت إرادة جزء عريض منهم قبل أن يخرج إلى الشارع والساحات العمومية، رافعا شعارات منددة بالتهميش، وغياب فرص العمل والفساد، ومناديا بسقوط الطاغية والمتآمرين معه، بل وقبل الشباب أن يموت برصاص القناصة ورجال الأمن من أجل تونس أخرى ممكنة بلا ظلم وبلا حيف. وفعلا أستشهد العديد من الشبان وأصر البقية من وراء شاشات أجهزة الحاسوب وبحكم خبرتهم بتفاصيل شبكة الإنترنيت و تعاملهم الجيد مع شبكة الفايسبوك، نجحوا في نقل صورة وحشية النظام إلى العالم فاضحين الكذب الذي يمارسه عبر وسائل إعلامه، مزعزعين أركانه التي سرعان ما تهاوت على وقع هتافات المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة، وبقية شوارع المدن التونسية. ليصنع عندها «شباب تونس الفرصة التاريخية ممثلة في ثورة 14 جانفي وهي الفرصة التي قصدها بعمق الرجل الستيني الذي صرنا نشاهده يوميا على قناة الجزيرة مدركا أنها من صنع الشباب، لهذا فقد فاجأت جيل الأباء الذي هرم واشتعل رأسه شيبا وفقد الأمل من كل عملية تغييرتفضي إلى الإطاحة بالنظام. بل إن جزءمنه وتحديدا من النخب السياسية والمثقفة إهتزت ورقصت فرحا عندما إستمعت لبن علي في خطابه الأخير وهو يعد بالديمقراطية ويتوعد بمحاسبة المنافقين من أعوانه كما عرض بعضها المساعدة عليه قصد إنقاذه ولوفي ساعة الإحتضار.لتأتي بذلك ثورة 14 جانفي ،وكأنها عملية ثأر قام بها الأبناء لصالح أبائهم المقموعين والممنوعين من الكلام ولكن بالمقابل فقد كانت أيضا بمثابة القتل الرمزي للأب بالمعنى الفرويدي فالسلطة القمعية ،تجد تجسداتها على مستوى الميكروسوسيولوجي في ثقافة أبوية سائدة لا تؤمن هي بدورها بالحوار وترفض الإستماع والإعتراف بهواجس وأسئلة الجيل الجديد من الشباب وتتعامل معه دائما وفق ثنائية الشيخ والمريد .وقد جسدت هذا الأمرعلى المستوى السياسي هيئة تحقيق أهداف الثورة التي إستبعدت التمثيل الشبابي، مؤكدة خلاصة توصل إليها عالم الإجتماع الفرنسي وهويشخص حركة ماي 68 الطلابية أن «الشباب مجرد كلمة، أي أنه مجرد خطاب يلتمع ويخبو بحسب مصالح المتحكمين في اللعبة السياسية ،وهو مايتكرر فعلا حيث لا تتردد النخب السياسية في التعبير عن إعجابها بالشباب الذي أنجز الثورة وفاجأها بها. لكن نجد أنها تمعن في إقصائه وتغييبه، وخير دليل أنها إستعادت بعد سقوط الصنم الأكبر معاركها وإختلافاتها القديمة التي تعود إلي سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، بعيدا عن هواجس الشباب ومشاكله الحالية ،إذ يصر البعض منها على كسب ود المجتمع عبر مدخل الهوية والإنتماء الحضاري والمرجعيات الثقافية، بدل بلورة البرامج والحلول العملية التي تطرح التصورات لمشكلة البطالة ،والتهميش، وغياب الأفاق المهنية ،وتعمل بشكل جدي على تجديد خطابها السياسي حتى يقترب أكثرمن واقع الفئات الشبابية ويقنعها أن هذه القوى فعلا حاملة لمشروع مجتمعي حقيقي وواعد يقطع مع الثقافية السياسية التي كانت سائدة فيما مضى . على هذا الأساس تحديدا ،لابد أن يقتنع جزء من الفاعلين السياسيين أن الأفكاروالإيديولوجيات تهرم وتشيخ بل وتموت أحيانا وتصبح جثثا هامدة كريهة الرائحة ،إذا لم يعمل أصحابها على جعلها ملائمة للواقع التاريخي الذين يرومون تغييره سياسيا. فالتوجه للجيل الجديد بخطاب سياسي قديم وبأدوات عمل سياسي صدئة من الممكن أن ينفر الشباب من العمل السياسي .فالأحزاب السياسية، ستواجه فعلا هذا الإختبار العسير مستقبلا ومن المؤكد أن حضورها في الساحة مرهون بكيفية تعاملها مع الشباب الذي يشكل قاعدة ديمغرافية واسعة ومدى إستفادتها من طاقاته المخبأة بعيدا عن عقلية الشيخ والمريد التي تكرس علاقات التبعية بدل قيم المواطنة والمدنية. لكن في الإتجاه المعاكس ،لابد أن تدرك الفئات الشبابية التي ساهمت في صنع ثورة 14 جانفي أن هذه الثورة هي فعلا فرصة تاريخية للمشاركة في بناء مجتمع ديمقراطي، تحترم فيه الحريات الفردية ،وتمارس فيه قيم المواطنة وإحترام الإختلاف. ويتم هذا عبر تشكل حركات شبابية مدنية وسياسية حاملة لمشروع وتعبرعن وعي مدني يتواصل ويقطع في الآن نفسه مع مراكمات الأجيال السابقة وخاصة تلك التي أسست دولة الإستقلال . إلا أن كل هذا سيظل مرهونا بمدى رغبة الشركاء السياسيين في التأسيس لأرضية مشتركة تعبئ كل القوى المجتمعية وتستفيد من حضورها على الساحة وكذلك بمدى العمل الجدي على تحسين الظروف الإقتصادية والمعيشية لفئات مجتمعية عريضة وخاصة منها الشبابية الحضرية الموجودة في المدن التي تنتظر الكثير من الحكومات القادمة والتي من المؤكد أنها لا تريد أن تخيب ظنها مثلما خيبت دولة الإستقلال جيل الأباء وأحبطته.