بقلم: الصادق بن مهني صغيرتي كم أنت كبيرة وعظيمة ورائعة ! أنت نبتة فل رقيقة حيية سهلة الخدش يراك الرائي فيحسبك يافعة ما تزال تلبس ميدعتها وتذهب إلى المدرسة ! لكنك في واقع الواقع- كما كانت الكاهنة-عليسة-سوفونيسبة- بنتُ تونس التي آلت على نفسها أن تفنى حبا وبذلا لئلا تفنى تونس نهبًا وتخويفا وتقتيلا. صغيرتي ! صغيرة القامة رقيقة العود، نحيلة أنت ! لكن قامتك وأنت تهتفين عند زاوية «الداخلية» ذات يوم دخل التاريخ إلى الأبد في علو بوقرنين وزغوان والشعانبي معا! صغيرتي ! كنت أخشى عليك ومازلت هلعا عليك. فأنت الوديعة المسالمة الحالمة المتطلعة المعطاءة المتحدية كنت، ومازلت، محط أنظار وأسماع غلاظ-متعجرفين- لا رادع لهم -متواطئين-طماعين-خوافين- متكالبين- باعوا إنسانيتهم بأبخص ثمن وبدون ثمن ! كبيرتي ! لم أعد أخشى عليك ولستُ عليك جزعا ولن أحزن لو أصابوك ! فأنت قد علمتني أن ابنتي-ابني-أطفالي ليسوا أفضل ولا أضعف ولا أغلى ولا أهون من شهيدات وشهداء تخضبت بدمائهم أرضنا وعبق بشذاهن-شذاهم تاريخنا. رائعاتي! كم سعدتُ وفرحتُ وكم أحسستني شابا بل ويافعا متوثبا نحو مستقبل ممتد حتى اللانهاية وأنا أجلس معكن ومعهم على الرصيف في الشارع الكبير، الشارع الذي نهض يصنع التاريخ جديدا بحناجركن-حناجركم والشموع تتلألأ مرتاحة إلى الأزهار المرتاحة إلى صمتكم-صمتكن إلا صوت آمال تغني لوهلة كلمتها الحرة ! بديعاتي ! بعضكن وبعض من أصدقائكن صديقات وأصدقاء لي على الشبكة وجميعكن-جميعكم بنات وأبناء لي كما صغيرتي-كبيرتي وكما أمينُ... وكم أنا ممنون للحياة على أنها أبقتني لأعيش لحظةً ارتفعت فيها هامتي وطاولت ما وراء الحدود - ما وراء الزمن السيار... كم أنا ممنون لكن-لكم على أنكم-أنكن صنعتن- صنعتم من رقتكن-يفاعتكم قوة زلزلت من-ما كان جاثما على صدورنا-عقولنا-إرادتنا كقدر غاشم لا يستحيل. صغيرتي-كبيرتي وأخواتها ! أدرك أنكن قويات العزم، فولاذيات الإرادة، لا تترددن في المعاودة لكنني مع ذلك مشفق عليكن، جزع علينا ! لا أستطيع أن أنسى هناء، وما ذاقته من عذاب اجتمع عليها فيه كلاب الدم وغوغاء الميليشيات...لا أستطيع أن أنسى ذاك الذي حمل على الأعناق وشق صفوف الديمقراطيات ينبح «أن إلزمن المطابخ والمضاجع واتركن العمل والشارع والتعبير للرجال»... لا أستطيع أن أنسى أولئك الباغين الذين تكالبوا على زهورنا وشموعنا وعلى جمالكن الساطع يدعون في الدين معرفة حصرية وفي الجهاد طريقا وحيدا... لا أستطيع أن أنسى ما أشاهده وما أسمعه من رغبة في غبن أرضنا-سمائنا-شمسنا-طموحنا بكذبة خلنا أنها انفضحت وانقشعت للأبد وهاهم يلوحون بها من جديد كذبة أنكن أدنى وأصغر ! صغيرتي-كبيرتي وأخواتها ! ولدتني امرأة تعذبت بي جنينا وطفلا وعذبتها شابا يخرج من مراهقته تتلاقفه مخابئ النضال السري فالسجون والمعتقلات الموزعة على الأنحاء البعيدة ! وكانت جدتي امرأة لا يصل كعبَها عشرةُ رجال : تعمل كقبيلة، وتشق الوعر، وتصنع المحال، وتستهزئ بألف تحد، وتحفظُنَا «لغة النبي» لغة أجدادها الأمازيغ! ورافقت أمك عودتي إلى الدنيا من غياهب سجون تونس وبنزرت والقصرين وبرج الرومي وكان لها فعل كبير في أن أتعلم من جديد كيف أخطو ومتى أعدو أو أهرول ومتى أهدأ. وإلى ذلك أعطتني ولدين رائعين وأحاطتني برعاية حنونة وأثبتت بولادتها الثانية لك أن المرأة هي مستقبل البشرية فعلا. كما رافقت مسيرتي في حياتي أخوات ورفيقات وصديقات وقريبات وزميلات أحببنني كثيرا، وأحببتهن كثيرا، وتعلمت منهن الكثير، وأنا مدين لهن بأشياء لا تحصى منها أن إنسانيتي هباء منثور إن لم تعززها حريتهن وإنسانيتهن. ومنكن جميعا تعلمت أن الحياة أنثى وأن السخاء هو أيضا أنثى، وأن التضحية أنثى... وعندما أعدتني إلى روحي ودمي بأن أنزَلتني مجددا إلى المظاهرات والتجمعات والاعتصامات، وجدتني صغيرا صغيرا بل في منتهى الصغر وأنا أرى كل هؤلاء الرائعات المتقدمات في الميدان المتمترسات تحت الأشجار الزاهيات بأعمارهن على اختلافها المناديات بحرية الشعب ورخاء البلاد الغيورات على حقوقهن وغير المترددات أمام الغازات والسموم والرصاص والعسس. صغيرتي، الكبيرة، أخواتي، أمي، صديقاتي يا كل حبيباتي ! أنا خائف عليكن، خائف على الرجال في بلدي، خائف على بلدي، خائف من أن ينقلب المنقلبون على ثورة لم يصنعوها واستفادوا منها فوريا وأكثر من غيرهم، لكنهم لا يحترمونها... ولكنني تعلمت منكن جميعا أن الصبر جميل وأن الحق يعلو وأننا شعب قد يخبو لهبه لكن أبدا لا تنطفئ شعلته، وأننا «إن عادوا عدنا» وإن التفوا انفجرنا وإن اعتدوا تصدينا. أحييكن جميعا في عيدكن العالمي، وأقبل أرجلكن واحدة واحدة يا كل نساء بلدي !