الثورة التونسيّة لم تكن ثورة وطنيّة فقط بل توسعت دوائرها لتصطبغ بصبغة عربيّة بل وعالميّة أيضا.. ثورة تستحق عن جدارة أن يكتبها التاريخ بحروف من ذهب وأن تدرّس في كبرى الجامعات العربيّة والعالميّة. هي ثورة المظلوم الذي أبى حياة الذّل فسقى نفسه كأس الموت بالعزّ.. وكأنّه ينطق شعر عنترة القائل: لا تسقني ماء الحياة بذلّة بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل ماء الحياة بذلّة كجهنّم وجهنّم بالعزّ أطيب منزل أحرق نفسه في مشهد تراجيدي تعجز المشاعر الصادقة عن توصيفه، وأحرق معه صفحات من القهر والظلم والتنكيل، لم يعشها هو فقط وإنما عاشها شعب بأسره بل كلّ الشعوب العربيّة وشعوب العالم الثالث عامّة.. فبخّر بدخان جسده المتداعي بلاد العرب ثورة وعزّا.. كالعود يزيده الإحراق طيبا.. هي روح سقطت من أجل الكرامة والحريّة وفتحت برازخ التضحيات والشهادة لشباب الأمّة المقهور.. تتالت بعده الأجساد جثثا، حرقا وخنقا، رصاصا وقنصا.. أرواح شابة زكيّة غادرت الحياة طوعا من أجل الكرامة والحريّة. وما أغلى الحياة عند صاحبها ولكنّهم جادوا علينا بأغلى ما يملكون بعد أن خنقهم الفقر والذلّ والمهانة والتهميش فباتوا لا يملكون من نفيس الحياة غير أنفسهم اليافعة النديّة.. فأعطونا إيّاها عن رضا وطيب خاطر وسقوا أرض الثورة بدمائهم الطاهرة الزكيّة.. وما أغلاك أيتها الروح المنعمّة المترفة وما أرخصك عند الجواد المتعفف.. تغيّر لون الصورة من البنفسجيّة الخانقة إلى حمرة الدماء الطاهرة، حمرة العذراء العفيفة الحييّة.. أما ما يعزّ في النفس ويؤسف، أن تهدى التضحيات إلى السراب، وترمى في غياهب النسيان والأيّام الغابرة.. وتكبّل أرواح أصحابها في ضيق أفق المتحررين.. فنقابل الجود بالجحود ونطلي دم الثورة بدهان الإفك والنفاق.. يركب الطفيليّون المتطفلون صهوة الثورة من جديد.. وبقدرة قادر يتحوّلون من أبواق التأليه والتمجيد إلى نوائح مستأجرة تارة وأصوات ثائرة تارة أخرى يسبون أمسهم القريب بل ويتنصلون من أنفسهم فيه، يهجون "عهد التغيير" ويستبشرون بالتغيير.. فسبحان الذي غيّرهم وسبحان مغيّر الأحوال.. وآخرون في زمن قصير أصبحوا أبطالا، وأصحاب جولات وصولات في البطولة والكرامة زمن العهد المخلوع.. ولهم في ذلك قصص وروايات من أرشيف السياسة الراحلة لعلّهم يكتبونها في موسوعة "بن علي بابا والأربعين طرابلسي" التي تلقى رواجا هذه الأيام في الصحافة والإعلام وحتى الأدب والمسرح.. قد تدرّ على أصحابها الملايين في تجارة لن تبور.. تجارة بالماضي والحاضر وكذلك المستقبل الذي يرفض استقبالهم قلبا وقالبا بعد أن أراد الشعب وقال كلمته فأراد له القدر ما أراد.. آخرون أيديهم وحساباتهم البنكيّة وصفحات سيرهم الذاتيّة ملطّخة بدماء الشرفاء الأحرار موّشحة بأنين المتوّجعين وآهات اليتامى والثكالى.. مازالوا طلقاء اللسان واليد، يسرحون في الأرض المحررة منهم.. والأغرب أنهم مازالوا يطمعون بفتات الكعكة التونسيّة الجديدة.. إلى كلّ هؤلاء.. إن أفلتّم -ولن تفلتوا-من عقاب الأحياء ، فلن تترككم أرواح الشهداء..