لم يعد منطقيا الإبقاء على جملة من المسلمات خارج دائرة النقد أوالمراجعة أو إعادة النظر، ولعل الوقت قد حان لفتح صفحات في تاريخ تونس تم إخضاعها في الماضي إلى منطق غير منطقي بالمرة ويتعلق بجملة من الممنوعات أو»التابوهات» التي أراد واضعوها وأد جملة من الحقائق في طياتها والتخفي وراءها والاحتماء بها كلما أعيتهم الحيلة في الإقناع والدفاع عن مواقف وبعبارة أخرى لتسفيه الرأي المخالف. من بين هذه «التابوهات» استقلال تونس الذي - ولئن اختلفت الطرق والوسائل والخيارات في تحقيقه ودفع البعض حياتهم ثمنا للاختلاف في المنهج يتعين أن يبقى محل نقاش ولو في إطار تاريخي بحت لا للعودة إلى الوراء بل للاستفادة وتمكين أجيال بكاملها من الشعور بالانتماء إلى بلد مستقل. نقول هذا تزامنا مع ذكرى عيد الاستقلال التي يحتفل بها التونسيون في عهد ثورة جاءت لتتمم معالم الاستقلال وتحقق ما أهدره بناة دولة الاستقلال من حرية وكرامة وشعور حقيقي بالانتماء إلى وطن لا مكان فيه لظلم ذوي القربى بدعوى أن ذلك يهون وأفضل من ظلم المستعمر الأجنبي فيما أن واقع الحال يجد أعذارا للمستعمر ولكنها سرعان ما تنعدم عندما يتعلق بممارسات من قبل تونسيين سواء كانت تستهدف هيبة الدولة أو تستهين بالمواطنة أي بالإنسان التونسي. عندما تتعدد المظالم تتبادرإلى الأذهان مجموعة من الأسئلة لعل أبرزها لما «نلنا» استقلالنا ويلقى الشعب التونسي معاملة لا تحترم سيادته ولا نضجه ولا حتى كرامته .. ألم يكن من الأفضل البقاء تحت السيادة الفرنسية مثل الأقاليم وأراضي ما وراء البحر الفرنسية الحالية التي نادرا ما فكرت شعوبها في الانفصال عن فرنسا؟ الجواب سهل وبسيط ويقصي السقوط في المحظور لأن مطلب الاستقلال في تونس كان بخلفية حضارية إذ لا يجوز أن يستعمرنا مسيحيون وأن يقصى أبناء البلد ويتم تغليب مصالح المعمرين وتونس كانت ومازالت بلدا عربيا مسلما.. لكن لا يجب أن يعني أن ما حصل في دولة الاستقلال يليق بالإنسان التونسي والقطع نهائيا مع ممارسات الاستعمار. صحيح أن تلك الدولة نشرت التعليم وركزت الرعاية الصحية و»فتحت» العقول لكنها أيضا فتحت السجون أمام المعارضين والمخالفين للفكر الأحادي وللحزب الواحد وللمطالبين بحرية التعبير وبالمشاركة في بناء الدولة المستقلة.. فهل كان ذلك هو الاستقلال الذي نريده أو بالأحرى الذي أراده الشهداء وأجدادنا وآباؤنا؟ استقلال بلادنا في حاجة إلى مراجعة لكن ليس بالتشكيك فيه لأن عجلة التاريخ لا تتراجع ولأن غلبة تيار التفاوض مع فرنسا على تيار المقاومة (اليوسفيون) أمر لا يمكن تداركه وأضحى أمرا واقعا منذ عقود طويلة فإنه لا بد من إعادة الاعتبار لمناضلين وتيارات سياسية ونقابية ومفكرين كانوا متسامحين فلم يرفضوا «استقلال بورقيبة» بل رفضوا الخضوع لشخصه.. نعم حتى وإن كان «زعيم الأمة» وحاولوا المساهمة في بناء الدولة اجتهادا منهم ورغبة في المشاركة. استقلال بلادنا لا تكون «إعادة الاعتبار» له إلا بقطع مع الماضي الذي يتجاوز ال23 سنة (فترة حكم بن علي) لتكون العودة إلى نقطة الانطلاق أي الأيام الأولى للاستقلال.. فها هو الظرف موات .. ونحن في مرحلة بناء هياكل الدولة الجديدة ومؤسساتها.. نستعد لانتخاب مجلس وطني تأسيسي ولصياغة دستور جديد يقطع مع دستور 1959 الذي امتطاه بورقيبة ثم بن علي للوصول إلى قمة احتقار إرادة الشعب بالمكوث على صدره «قدر المستطاع» حتى وإن كانت الرئاسة مدى الحياة لعجوز أنهكه العمر وتتصارع فيه لحظات الصحوة والغيبوبة أو ل»رجل» سلم كامل المقاليد الشخصية والسياسية لزوجة خيل لها أنها ترتع في مزرعة خاصة إسمها تونس. الاستقلال لا يعني مجرد التخلص من المستعمر ومن المقيم العام الفرنسي ومن الإدارة الفرنسية ومن سياسة التجنيس ومن المؤتمر الأفخرستي للتنصير.. إنه يلخص فيما يمكن تسميته بالمتعة.. نعم أن يشعر التونسي بالمتعة التي لا تضاهيها متعة عندما يمارس حقه في الانتخاب .. يتحدث بكل حرية في الأماكن العامة ..يقرأ من الكتب والصحف ما يريد دون أن يتهم بارتكاب جرم قراءة الممنوعات وأيضا بكتابتها .. يؤسس ما يريد من أحزاب أو ينتمي إليها دون الحاجة إلى اللجوء إلى السرية وغيرها مما كان ينغص حياة التونسي ويحرمه من متعة المواطنة الحقيقية ويعبر عن إنسانيته التي اكتشفنا- أخيرا- أنها لا تختلف عن إنسانية الآخر في أعرق الديمقراطيات. كدنا نصدق أننا سنبقى لعقود مجرد أرقام في احصائيات يشاد بها هنا وهناك أومجرد أرقام وضحايا في سجلات المنظمات الحقوقية الدولية وتقاريرها وبين هذا وذاك كنا مجرد أسرى يعود تاريخ الأسر إلى أولى سنوات الاستقلال عندما حاد الجهاد الأكبر عن طريقه وبرهن صاحبه مدى فشله في الجهاد ضد النفس ونوازعها وهي الأمارة بالسوء .. ألم يجد نظام بن علي أرضية خصبة للانطلاق من حيث انتهى بورقيبة بعد أن كرس هذا الأخير التمييز في التنمية بين الجهات فيما استعمر الثاني اعتمادا على عائلتين شعبا بأكمله؟ ألم تكن عقود الاستقلال سنوات عجافا بأتم معنى الكلمة لشعب نهبت خيراته وأستبيحت كرامته؟ ... سيكون ذلك مجرد ذكرى سيئة إذا لم نفوت الفرصة ولم تشقنا الخلافات والأهواء.