بقلم : المولدي الأحمر يُعد النقاش الفكري حول علاقة الدين بالدولة في تونس قديما وليس وليد ثورة 14 جانفي 2011. لقد سبق أن طرحه التونسيون بشكل واضح منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وأجابوا عنه بشكل غامض -وفقا لمقتضيات ذلك العصر- في البند الأول من دستور البلاد سنة 1959، ثم استمروا في العودة إليه من خلال تأويل ذلك البند في هذا الاتجاه أو ذاك كلما دعت الحاجة السياسية إلى ذلك. وطيلة كل هذا الوقت لم يُقنع أي طرف الآخر برأيه وبصحة تأويله وبممارساته. فالدولة التونسية، ومن ورائها النخب السياسية "المسلمة" التي تمسك بدواليبها، مارست التدخل في الشأن الديني بشكل واسع وأحيانا ضد إرادة مواطنيها "المسلمين". و"المسلمون الإسلاميون" التونسيون الذين يعارضون هذا التدخل (و ينقسمون إلى عدة تيارات) يتهمون الدولة ونخبها "المسلمة" بأنها تقوم بتغريب المجتمع وتبعد أهله عن الدين ولا تحكم "بالإسلام" الذي يتضمن الحلول لكل المشاكل. واليوم يعود هذا المشكل مرة أخرى، ولكن في سياق جديد يأمل الكثير منه أن يتمخض عن إجابة جديدة وواضحة عن السؤال الحقيقي الذي يختفي وراء هذا البند. يقول البند المعني: "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها". ليس هناك خلاف جوهري بين جميع الأطراف السياسية التونسية اليوم في ما يخص فكرة أن الإسلام في مفهومه العام- يعد إحدى المكونات الأساسية لهوية الشعب التونسي، والشيء ذاته في ما يخص اللغة العربية، نظرا للتجانس العرقي والثقافي القوي الذي تتصف به البلاد التونسية. وليس هناك أيضا خلاف كبير على حق تونس في الاستقلال والسيادة الحرة، كما أن النظام الجمهوري يحظى بقبول واسع لدى المواطنين. على ماذا الخلاف إذا؟ هذا هو اللغز الذي يختفي وراء الغموض الواضح للبند الأول من الدستور في صيغته وفي مفرداته، وهذا هو الموضوع الذي يتفادى الكثير من "الإسلاميين" وخصومهم السياسيين الخوض فيه بشكل واضح ومباشر، بل ويحاولون الإيحاء بأنه لا يمثل أي مشكلة، وكل ذلك لأسباب سياسية مؤقته لا غير. الإسلام في بعده العقائدي العام ليس محل خلاف. ففي كل زمان ومكان، ولدى جميع الشعوب، احتلت العقيدة الدينية حيزا ثقافيا واسعا في حياة البشر. وعند أغلب الناس على هذه الأرض تنظم العقيدة سواء كانت توحيدية أو غيرها- أحيانا بشكل رائع، روحيا وجماليا، علاقة الإنسان بالوجود، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مما يعطيه معنى للحياة ويكسبه الإحساس بأنه مسؤول أخلاقيا أمام المؤمنين ومن يعتقد بأنه الخالق الأول. كما أن هناك شيئا آخر مهما جدا في البعد العقائدي للأديان التوحيدية، ومنها بالذات الإسلام، يجعله محل قبول الكثير من الناس، وهو مبدأ أن من يعمل مثقال ذرة يحاسبه الله على ذلك بصفة فردية، فالناس لا يقفون في الآخرة أمامه شعوبا وقبائل وأمما وطبقات وأحزابا وبيضا وسودا إنما أفرادا فر كل واحد منهم من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وعاد إلى الله كما خلقه أول مرة. وهذا يعني أن الفرد وفق هذا الاعتقاد لا يُحاسب إيجابيا أو سلبيا على نتائج الفعل الجماعي الذي يكون قد اشترك فيه مع الآخرين -سواء كان هؤلاء يحملون مثله نفس المعتقد أم لا- إلا في مستوى ما قدمت يداه هو كفرد ومن منظور ما يراه الله حقا. ما المشكلة إذا؟ الجواب هو التالي: إن ما يريد الجميع إخفاءه وتفادي الخوض فيه والتظاهر بالاتفاق عليه مع الجميع، هو الفهم الذي ينبغي أن يكون لدينا لمعنى ذلك البند: هل المقصود بالإسلام "هوية ثقافية"عامة؟، أم عقيدة لا تتجاوز العلاقة الخاصة بالله؟، أم "منهج حياة" سطر الله مبادئه منذ الأزل وينبغي في النهاية على البشر أن يهتدوا به ويحاولوا تحقيق نموذجه المثالي؟. إن ما يجب معرفته حول هذه المسألة هو أنه قبل العصر الحديث لم تفصل الأديان يوما بين هذه الأبعاد الثلاثة، سواء شكل المختصون بفقهها مؤسسات كهنوتية تراتبية تتكلم باسم المعتقد وباسمهم، مثل الكنيسة، أم ظلوا أئمة ومفتين وأولياء صالحين، يساعدون المؤمنين على التعرف على الطريق إلى الله، ويحصلون على منافعهم ومكانتهم بين المؤمنين دون أن يتحدوا تنظيميا، مثلما هو الحال في الإسلام. إن هذا يعني أن التحولات الاجتماعية التي عرفها عصرنا هي التي فسحت المجال، بشكل لا متزامن وبحسب تجربة كل مجتمع، أمام هذا التقسيم كي يتبلور فكريا وسياسيا في أذهان الناس وفي أفعالهم. هنا يصطدم "الإسلاميون" الذين يعتمدون "الإسلام" عقيدة وثقافة ومنهجا في الحياة بمشكلة غاية في الخطورة، مفادها أنه لا يمكن سياسيا الانطلاق من "الإسلام" بوصفه منهجا نموذجيا (لأنه ربانيا) في الحياة دون التعارض مع الثقافة الجديدة التي ولدتها هذه التحولات داخل مجتمعنا على أكثر من صعيد، وهي تطورات وضعت موضع سؤال الكثير من المرجعيات الدينية عامة والإسلامية خاصة، بعدما ضعفت دلالاتها الثقافية بسبب التآكل التاريخي للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها عقائديا وماديا، وهي علاقات اعتمدت معياريا، على سبيل المثال، على قيم سيطرة الجماعة على الفرد والقوامة على النساء، ولا يمكن إعادة تأسيسها دون التراجع عن مبادئ حرية الأفراد في تنظيم وإدارة شؤونهم الخاصة، من العقيدة إلى الأسرة إلى العلاقة بالذات وبالجسد وبالجنس الآخر. يقول قسم من "الإسلاميين" بأنهم أمضوا عدة مواثيق مع المعارضة تحترم "مكتسبات" الشعب التونسي الحديثة. بيد أن الدعوة إلى "الإسلام منهجا في الحياة" ( لقد قال الشيخ راشد الغنوشي في أول ظهور تلفزي له بعد عودته من المنفى بأن "الإسلام هو الحياة"، وقال مؤخرا الشيخ عبد الفتاح مورو في جامع عقبة ابن نافع بالقيروان بأن "الإسلاميين" موجودين في المسجد ولكن لهم فروع في كل مناحي الحياة) لابد وأن تنتهي إما بالتناقض مع هذه "المكتسبات"، أو بتأويل جديد للدين سيفضي بالضرورة إلى تجاوز البعض من المبادئ التي يقوم عليها الدين الإسلامي. وفي كلتا الحالتين لا يمكن "للإسلاميين" تخطي مشكل إخافة أقسام واسعة من أفراد المجتمع من احتمال التراجع عما ولدته التحولات الثقافية والاجتماعية التي اكتسبوها، إلا إذا أقروا في الخطاب والممارسة بأن موضوع نشاطهم السياسي لا يستهدف البتة "أسلمة" المجتمع "المسلم" أو "إعادة أسلمته" من جديد، استعدادا لتخليصه من "غُربته الحضارية" التي اكتسبها تأسيسا على ما عرفه من تطورات على مستوى بنيته الاجتماعية والثقافية، بل يقتصر فقط على مساعدته على إدارة شؤونه العامة وفق متطلبات العدالة والحرية والديمقراطية ومن مبدأ المواطنة لا غير. أما خصوم "الإسلاميين" المتحفزين بعد الثورة للعودة أو للوصول بدورهم إلى مقاليد السلطة (و هم أيضا أطياف عدة)، فإنهم لن يقنعوا أحدا بأنهم لن يستخدموا أجهزة الدولة، مثل وزارة الشؤون الدينية، من أجل التدخل في "إسلام" المواطنين، طالما حافظت هذه الدولة على صفتها كمؤسسة عامة تعتمد في المبدأ حرية الأفراد في صياغة وترتيب وإدارة شؤونهم الخاصة و"تعتنق" في ذات الوقت الإسلام دينا ومذهبا في تحديد علاقتها بالمواطنين. إن الدين مثله مثل أي منظور فكري آخر، وضعيا كان أو مقدسا- يتحول بالضرورة إلى قوة منتجة للفعل السياسي الجماعي عندما يتجاوز فهم أصحابه له مستوى المعتقد الخاص والعلاقة الخاصة بالإله. ومن ثم فإن كل من يقرر الانخراط في عملية حشد آراء الناس وجمعهم بقصد تحقيق أهداف عامة، من منظور أن الدين يشكل منهجا نموذجيا للحياة، سواء كان في الدولة أو في المعارضة، عليه أن يعترف بأنه لم يدخل بعد إلى عصر الحداثة السياسية، حيث هوية الشعوب ظاهرة ديناميكية متطورة، والدين عقيدة خاصة، والسياسة شأن عام نسبي يحتمل الخطأ ويقوم على مبدأ الاعتراف بحقوق الآخر ونبذ الإقصاء. الدولة في العصر الحديث لا ينبغي أن يكون لها دين، ولكنها مطالبة بأن تحمي حرية المعتقد لأنها من حرية المواطنين. أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية