أجرى رئيس الحكومة، الباجي قائد السبسي أمس، تحويرا وزاريا طال وزير الداخلية، حيث تم تعيين الحبيب الصيد، عوضا عن فرحات الراجحي. ويأتي هذا التحوير بعد شهر من تشكيل حكومة السبسي، التي كانت تعهدت منذ الوهلة الأولى باستعادة الأمن وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة. ورغم شح المعلومات التي رافقت عملية التحوير وأسبابها، والتي رفضت بعض المصادر من الوزارة تقديم إيضاحات بشأنها، ذكرت مصادر مطلعة أن التطورات المتعلقة بالوضع الأمني خلال الفترة الماضية، شكلت سببا رئيسيا لهذا التحوير الذي جاء بشكل مفاجئ، وفي توقيت ربما كان غير مناسب. أحداث مثيرة وحسب المعلومات المتوفرة لدينا، فإن جملة من الحيثيات ساهمت في اتخاذ قرار إقالة الراجحي من منصبه، بينها: استمرار الانفلات الأمني في البلاد، سواء عبر "البراكاجات" التي تتم بصورة يومية تقريبا، وآخرها الهجوم على إحدى البنوك يوم أمس، أو من خلال عدم استكمال ما يعرف ب "الانتشار الأمني" لأعوان الأمن والمرور في مستوى المؤسسات الأمنية (مراكز أمن، مناطق، مراكز حرس وطني...)، وهو ما كرس حالة من المخاوف بين المواطنين، فضلا عن السياح والمستثمرين المحليين والأجانب. ما حصل في اعتصام "القصبة 3" قبل بضعة أيام، حيث تم رشق رئيس الوزراء بالحجارة، وتم في أعقاب ذلك اعتقال نحو عشرين شابا، اتهموا بعملية الرشق، قبل أن تفيد الأبحاث ويقر القضاء براءتهم مما نسب إليهم، وهو ما يمثل فشلا أمنيا في إدارة اعتصام القصبة، الذي لم يكن في حقيقة الأمر، اعتصاما عنيفا، ولم يحمل في ثناياه أية علامات للفوضى أو العنف، مما يحيل على تساؤلات كثيرة لعل أهمها: من يقف وراء رشق الوزير الأول بالحجارة؟ ومن من مصلحته تفريق اعتصام سلمي كان وراءه شبان وعوائل الحارقين وعائلات تونسية اضطرتها الأوضاع الليبية للتعبير عن جملة من المطالب بطريقة حضارية؟ وتفيد معلومات موثوقة، أن رئيس الوزراء، قد لا يكون رضي بالأداء الأمني في هذه العملية، خصوصا بعد أن خلفت استياء كبيرا في أوساط الرأي العام، وصلب المحامين وقسم كبير من القضاة، في وقت كان الباجي قائد السبسي حريصا على إعادة الاعتبار لهيبة الدولة، فجاء هذا الأداء الأمني ليهز صورتها من جديد، ويضع الوزير الأول في موضع استفهامي لافت. الأحداث التي رافقت زيارة وزير السياحة إلى توزر، حيث تم رشقه بالحجارة، بينما كان مرفوقا بأكثر من عشرين سفيرا كانوا يطلعون على المخزون السياحي التونسي الذي تكتنزه هذه الولاية السياحية الهامة. ولا شك أن النيل من الدبلوماسيين بتلك الطريقة، ومهما كانت الأسباب، تعكس إلى حدّ بعيد، ضعف الحماية الأمنية لزيارة الوزير ورفقائه، وتعطي الانطباع بعدم وجود استقرار أمني من ناحية، وبان هيبة الدولة في الميزان، من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي قد يكون أغضب الوزير الأول. احتمالات أخرى لكن بعض الأوساط تتحدث عن فرضيات أخرى شديدة الأهمية، قد تكون من بين القطرات التي أفاضت كأس وزير الداخلية، وعجلت بترحيله من وزارة الداخلية. فعلاوة على التيار الذي لا يمر بين الباجي قائد السبسي وفرحات الراجحي منذ اضطلاع السبسي بالوزارة الأولى، مثلما تتحدث مصادر مطلعة، فإن التيار الذي لم يمر إطلاقا، كان بين الوزير وعدة إطارات من وزارة الداخلية، التي لم تستسغ أسلوبه في إدارة الوزارة، ولم تجد أي تفسير لبطء قراراته المتعلقة بالشأن الأمني، فضلا عن شخصيته المرحة، التي لم يقع التعود عليها خاصة في وزارة تتطلب شخصية قوية و"كاريزماتية" إلى حدّ بعيد، لأن الأمر يتعلق بأجهزة شديدة الحساسية، وليس بشأن إداري عادي. ولذلك يمكن القول، أن الأمن في الوزارة لم يكن على قلب رجل واحد مع الوزير، وهو أحد الشروط الأساسية لنجاح أية شخصية في مثل هذه الوزارة. لكن هل الوزير الجديد، الحبيب الصيد يتوفر على هذه الخصال؟ العارفون بالرجل، الذي سبق أن شغل خطة رئيس ديوان وزير الداخلية في الفترة الممتدة بين 1996-1999 مع كل من الوزيرين السابقين محمد بن رجب وعلي الشاوش، لا يستبعدون ذلك، بل إن معلومات مؤكدة تشير إلى معرفة الرجل بدواليب الوزارة واطلاعه الواسع على خباياها و«ميكانيزماتها» من دون أن يكون من داخل أجهزتها، ما يجعله، وهو المتقاعد، يستجيب لشرط أساسي، وهو غياب الطموح السياسي لديه في حكومة، أراد الباجي قائد السبسي أن يكون أعضاؤها "انتقاليون"، أي خارج الحسابات الانتخابية القادمة. أسئلة مطروحة غير أن هذه الاحتمالات والتأويلات والفرضيات، لا يمكن أن تستبعد في نظر المراقبين إمكانية أن يكون الصيت الذي اكتسبه وزير الداخلية خلال الشهرين الماضيين منذ توزيره في الداخلية، والحظوة التي بات يتمتع بها لدى قسم واسع من الشعب التونسي، سببا في "إبعاده" من الوزارة. لكن السؤال المطروح حقيقة هو: هل أن هذا "الإبعاد" يأتي ضمن موجة "الغضب الرسمية" على أدائه وأسلوبه في إدارة الأمن خلال المرحلة السابقة؟ أم يندرج في سياق التمهيد لمستقبله السياسي خلال المرحلة المقبلة، خصوصا بعد أن أفصح الرجل عن قدرات لافتة في الاتصال والتواصل مع المجتمع، وشدّ الناس إليه بشكل غير مسبوق بالنسبة لوزير داخلية في تاريخ المؤسسة الأمنية؟