الأرقام ليست "لعبة" اقتصادية وتنموية فحسب، بل هي صناعة سياسية وإعلامية بالغة الخطورة وشديدة الحساسية، إذ يمكن أن ترفع من شأن دولة، كما يمكن أن تسقط حكومة. عرفت فترة تولي المرحوم الهادي نويرة رئاسة الوزراء في مرحلة السبعينات، ما يعرف بسياسة "ديماغوجية الرقم"، التي تغرق المتابع للشأن الاقتصادي بكم هائل من الأرقام، بحيث يصبح أسيرا لها، فلا هو قادر على فك شفرتها، ولا هو بوسعه أن يفهم مدلولاتها التي تحيط بها، ما جعل الرقم عملية معقدة بالنسبة لكل من يريد الخوض في الشأن الاقتصادي، وباتت الأرقام جزء من سياسة الحكومة بدلا من أن تكون جزءا من التحليل الاقتصادي المحايد والمستقل. ومع حكم الرئيس المخلوع، تحول الرقم إلى مصدر للتعتيم على المعطيات الإحصائية، لأن النظام تعامل مع الأرقام كمعلومات، والمعلومة مسألة خطيرة وحساسة بالنسبة للأنظمة الإستخباراتية، لذلك كانت الأرقام والمعطيات الإحصائية من بين الممنوعات الكثيرة التي عانى منها الإعلاميون والمحللون والخبراء وحتى السياسيون، فقد أغلق الرئيس الهارب كل المنافذ المؤدية إلى المعلومة والرقم، وأقفل تبعا لذلك عمليات سبر الآراء التي اختزلت في شركة واحدة كانت تقدم الأرقام عن المشاهدة التلفزيونية وفقا لمصالح بعض أطراف العائلة الحاكمة، الأمر الذي جعل الرقم بألوانه الاقتصادية والسياسية (الانتخابات) وسبر الآراء، مصدر قلق وانزعاج، خصوصا وأن أطرافا عديدة مثل الصحفيين والخبراء والمحللين الاقتصاديين، كانوا يدركون أن صلب هذه الأرقام التي تقدم بصورة جاهزة وبكيفية مغلقة تماما، ثمة شيء ما غير دقيق ويبعث على الحيرة والتساؤل. ولا شك أن نتائج سبر الآراء الذي أصدرته شركة "غلوبل ماندجمنت سارفيس"، يثير بدوره الكثير من التساؤلات حول أسلوب عملية السبر والمنهجية المتبعة، ودرجة شفافيتها، خصوصا وأنها تعاطت مع الشأن السياسي لأول مرة في هذا التوقيت السياسي الذي يسبق استحقاقا انتخابيا شديد الأهمية في تاريخ البلاد. ويخشى المرء من التوظيف السياسي لعمليات سبر الآراء، بحيث يطغى عليها لاحقا "المال السياسي" ويصبح محددا في النتائج وفي وجهة الأرقام. ومن المؤكد، أن الوقت قد حان لكي يتخلص الرقم من هيمنة طرف ما، فتونس اليوم بحاجة إلى معهد وطني للإحصاء يكون مستقلا ومحايدا، يمكن الباحثين والمحللين والإعلاميين، من الرقم الدقيق لكي يتولوا عملية تحليله والتوصل إلى استنتاجات من شأنها أن ترفع الوعي السياسي للمواطن، ولا تضعه في خانة محددة وموجهة. ولابد كذلك من تعدد المؤسسات الخاصة بعمليات سبر الآراء، حتى لا تكون حكرا على بعض الشركات، التي قد تقدم لنا أرقاما تطرح أكثر من تساؤل عن توقيتها ونتائجها والطريقة التي أجريت بها، على غرار تلك التي جادت به علينا قريحة "غلوبل ماندجمنت سارفيس"، من معطيات لا تبدو متوفرة على قدر من المهنية في طبيعة اهتماماتها. موضوع الرقم، موضع امتحان كبير للنخب والطبقة السياسية، ونعتقد أن المدخل لحياة سياسية واقتصادية نشيطة وشفافة، يبدأ من هذا الملف الشائك، الذي سيكون بلا شك محرارا لمدى تحقيق انتقال حقيقي في رؤيتنا للأمور، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، بل إن الخطوة الأساسية باتجاه بناء دولة بالمفهوم الحديث، دولة مواطنين وليست دولة رعايا، تبدأ من الطريقة التي سنتعامل بها مع الرقم والمعطيات الإحصائية. فهل نشهد تحولا من "ديماغوجية الرقم"، إلى "ديمقراطية الرقم"