ذكرى رحيل الزعيم الحبيب بورقيبة هذا العام تعود في ظروف خاصة جدا يمر بها العالم العربي من المحيط الى الخليج وهي ظروف أعادت الى السطح الكثير من الاحداث التي كان يمكن أن يطويها التاريخ لتدخل طي النسيان ولكنها تأبى الا أن تعود لتحمل معها الكثير من الحقائق للاجيال السابقة كما لاجيال المستقبل لا سيما عندما يتعلق الامر بالرياء والنفاق ولعبة المصالح الذي كان ولا يزال عنوان ديبلوماسية الغرب ازاء العالم العربي... تعود اذن اليوم الذكرى الحادية عشرة لرحيل الزعيم لتعيد معها الى السطح وقائع خطاب البلماريوم الذي شكل في حينه صفعة حادة للعقيد الليبي وتحول الى درس على الملا لم يتردد بورقيبة وهوالسياسي المحنك في تلقينه بطريقة لا تخلو من الذكاء ولكن من السخرية والاستصغار أيضا "لقائد " الثورة الليبي المتحمس الذي كان يحلم بحمل سلاح العروبة في وجه الامبريالية الامريكية قبل أن يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه أمام حضور جماهيري مكثف مما اضطره للمغادرة والعودة الى بلاده على عجل وهو الذي كان يأمل في سحر الحضور بمبادئه الثورية. لحظات ربما لم يكن من اليسير على العقيد أن يزيلها من ذاكرته أو أن يمحوها من سجلات التاريخ القاسية في أحيان كثيرة، ولعل في تلك الحادثة التي لا تزال مصدرا للتندر بشخصية القذافي الغريبة الاطوار ما يمكن أن يشكل سببا كافيا وراء غياب معمر القذافي وتخلفه عن وداع الزعيم الراحل الذي وجه اليه اهانة لا أحدا كان يتوقعها... "عندما يلقن بورقيبة الشيخ العقيد الشاب درسا..." كان ذلك العنوان الابرز للصحافة الفرانكوفونية غداة خطاب البلماريوم في ديسمبر 1972 وهو العنوان نفسه الذي اعتمدته أغلب وسائل الاعلام اليوم في نقلها للاحداث الراهنة في ليبيا حيث جعل القذافي من شعبه رهينة لاهوائه وطلعاته الغريبة لتذكر بأن بورقيبة كان الاقدر بين زعماء العالم على مواجهة تعنت العقيد وغروره وأنه كان الاكثر جرأة عندما دعا القذافي الى الانضباط بعد أن اقتحم بورقيبة فجاة ودون سابق انذار قاعة البلماريوم ليخاطب القذافي بكلمات كان لها وقعها على الذين واكبوا الحدث ولكنها لا تزال اليوم تشهد على واقعية الزعيم ونظرته الاستباقية في قراءة الاحداث ويذكره "بأنه اذا كانت تونس في العصور الوسطى فان ليبيا لا تزال في عصور ما قبل التاريخ" بمعنى أن تحدي أمريكا والحاق الهزيمة التي كان يسعى اليها باسرائيل لا يمكن أن تتحقق مع استمرار التخلف... والحقيقة أنه بقدرما كان بورقيبة واضحا وصريحا في تعامله مع العقيد برغم الواقع الاقتصادي المتردي لبلاده في تلك الفترة بقدرما كان الغرب جشعا ومخادعا وانتهازيا ومنافقا في سياسته ازاء العقيد الذي تفرد بالسلطة على مدى أكثر من اربعة عقود وجعل من ثروات ليبيا النفطية واثارها الطبيعية وكنوزها مصدرا لتحقيق نزواته ونزوات ابنائه التي لا تنتهي... وما كاد القذافي يبادر بالاعلان عن الغاء مشروعه النووي ويعلن استعداده لتقديم تعويضات مغرية لضحايا عملية لوكربي حتى تسابق الغرب لكسب وده والنزول عند أهوائه وتحويل الانظار عن تجاوزاته وانتهاكاته الفاضحة لحقوق الانسان فقد كانت صفقات السلاح ومعها المشاريع النفطية كفيلة بكسب تأييد الغرب وضمان صمته عندما يتعلق بجرائم القذافي وجرائم أبنائه وتجاوزاتهم المتكررة للقوانين في باريس وسويسرا ولندن وتونس... وقد كانت خيمة القذافي تجد طريقها الى الايليزيه وروما رغم أصوات المعارضة بل أن خيمة القذافي شهدت توافد الزعماء الغربيين عليه في أكثر من مناسبة بدءا بالريئس الفرنسي ساركوزي وزوجته السابقة وصولا الى وزيرة الخارجية الامريكية غونداليزا رايس ومنها الى رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير أما رئيس الوزراء الايطالي فتلك حكاية اخرى وهو الذي لم يتردد في الانحناء امام القذافي وتقبيل يده وكل شيء يهون من أجل ضمان مصالح ايطاليا في ليبيا.ولاشك أن تحركات الغرب ضد القذافي اليوم ليس بدافع الدفاع عن حقوق الانسان بقدرما هي بدافع الدفاع عن مصالحه المتعددة في المنطقة... قبل أحد عشر عاما اذن رحل الزعيم الحبيب بورقيبة دون أن يتاح للشعب التونسي فرصة توديعه الوداع الذي يليق بمقامه وبمسيرته النضالية ، رحل بورقيبة ولم يحظ بما حظي به محمد الخامس الذي واكب جنازته أربعين رئيسا او رئيس حكومة ولا بما حظي به العاهل الاردني الملك حسين ولا بما حظيت به الاميرة ديانا. وقد ظلت الاسباب والدوافع التي كانت وراء هذا التعتيم من الاسرار التي تكتم عليها النظام السابق الذي حرص وطوال السنوات الثلاثة عشرة لعزل بورقيبة عن السلطة على بقاء الزعيم بعيدا عن الاضواء، والواقع أنه حتى في المناسبات القليلة التي ظهر فيها بورقيبة للعموم فقد كان ظهوره في أغلب الاحيان في وضع المرض او العجز. وكانت الصورة الاكثر حضورا صورته ممدا على فراش المرض وقد وقف الى جانبه الرئيس المخلوع بن علي وزوجته في طاقمها الاحمر القاني المتناقض مع المشهد. وهي الصورة التي عادت بقوة الى الاذهان ودفعت بالكثيرين للمقارنة بينها وبين ظهور بن علي قبل أسبوع من سقوطه مع طاقم طبي الى جانب الشهيد البوعزيزي وهو على سرير الموت في محاولة ميؤوس منها لامتصاص الغضب الشعبي المتفاقم... وفي يوم السبت 6 أفريل سنة 2000 تسمر أغلب التونسيين أمام أجهزة التلفزة في انتظار بث جنازة الزعيم، مرت الساعات بطيئة لم تنقطع القناة الوطنية خلالها على بث برامج صامتة خاصة بعالم الحيوان من البر الى البحر. أذكر يومها أننا كنا في مقر الجريدة كغيرنا من المواطنين ننتظر الحدث وطال بنا الانتظار قبل أن يأتينا الخبر اليقين من الزميل كمال بن يونس الذي كان على عين المكان بمدينة المنستير ويعلمنا أن مراسم الدفن انتهت منذ اكثر من ساعة... لاذت السلطات بالصمت ولم يقطعه سوى تصريح للشيخ راشد الغنوشي على قناة الجزيرة "بأن الرجل لا يستحق الرحمة " متناسيا دعوة الحديث الكريم أن اذكروا موتاكم بخير ويمنح نفسه يومها درجة تتجاوز ما يحق للانسان الطبيعي اكتسابه وهو الوساطة بين الخالق والمخلوق... في حين تكفلت السفارة التونسية بباريس باصدار بلاغ بان التعتيم جاء احتراما لمشاعرالتونسيين بما يعني في لغة أشباه السياسيين بأن بورقيبة في مماته كما في حياته يبقى مصدر ازعاج وقلق لخصومه ومنافسيه. اربعة رؤساء حضروا يومها لتوديع بورقيبة كان بينهم شيراك وعرفات وعبد الله صالح وبوتفليقة ولدوافع أمنية وقع اختصار الطريق الذي كان يفترض أن يقطعه جثمان بورقيبة... ولكن من المفارقات الصارخة أن ذكرى بورقيبة الذي أريد له أن يرحل في صمت بقيت حاضرة في الاذهان لدى خصومه ومنافسيه واعدائه كما لدى أنصاره ومؤيديه ولعل بورقيبة يبقى من الشخصيات القليلة التي تركت بصماتها بقوة في احداث القرن العشرين واستطاعت بما تفردت به من صفات وخصوصيات أن يكون لها موقعها لدى الخصوم والانصار...يقول المقربون من بورقيبة أنه كان حريصا على وجود أربع صور في محيطه بينها صورة القائد العسكري حنبعل وسانت اوغيستان ويوغرطة وابن خلدون... وقد استطاع بورقيبة بكل ما سجلته مسيرته الطويلة من أخطاء ونزوات ولكن أيضا من نضالات وانجازات ومبادئ وأفكارأن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه وأن يظل اليوم مصدر اهتمام وموضوع دراسة للكثيرين يسقط بذلك حسابات الكثيرين ممن حاولوا طمس مسيرته والغائها فوجدوا أنفسهم بدلا من ذلك خارج التاريخ...