حرية تعبير إلى حد وصفها بالانفلات، صحف ودوريات جديدة بالعشرات، أكثر من مائة حزب سياسي تقنن منها 54، تزايد تصاعدي للمنظمات والجمعيات، وتصويت حر على مشاريع القوانين المنظمة للاستحقاقات الانتخابية القادمة... هي بعض مؤشرات الحرية التي تعيشها البلاد، فوحده الشعب من قررها وأنجز، وحده الشعب المنحوت بعد 3 آلاف سنة من الحضارة هو من أزاح غول الديكتاتورية وفتح الآفاق رحبة نحو انتقال ديمقراطي تنعم به البلاد. ولكن إن سلمنا بأن ماهية الانتقال الديمقراطي، هي مساهمة أساسية من المواطنين في إنجاحه وأن أهم مهامه هو استكمال مواطنة أفراد الشعب، فان تساؤلات تطرح نفسها هنا بالذات، فهل التونسي مستعد اليوم للديمقراطية؟ وماهي التهديدات التي يمكن أن تعرقل استكمال مواطنته؟ وهل أن الانتخابات وحدها هي الكفيلة بتحقيق الديمقراطية ؟ وفي عودة سريعة إلى مختلف الثورات الأوروبية "النموذجية" الكلاسيكية وعلى رأسها الفرنسية والأمريكية، فقد أسست للعقد الاجتماعي، للمواطنة. ويمكن تعريف المواطنة بماهي انتماء الفرد إلى وطن، الفرد المشارك في الحكم عبر الانتخاب ويخضع للقوانين الصادرة عنه ويتمتع بشكل متساو مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي اليها. فهل تنطبق هذه التوصيفات على المواطن التونسي؟
مؤشرات مواطنية
يجتمع مختلف المتابعين للشأن الوطني، أن المواطن التونسي أثبت من الشجاعة ومن الحس الوطني والمواطني ما مكنه من كنس الدكتاتورية ومن القضاء على نظام استبدادي حكم بالحديد والنار، وكانت المسيرات الشعبية الحاشدة السلمية، والشعارات المواطنية التي رفعتها الجماهير أثناء ثورته، أكبر سلاح فتك بأجهزة النظام السابق وجعلت الأحزاب السياسية تصطف وراءها، ومنظمات المجتمع المدني تتبنى رؤاها. ولم يكتف التونسي بذلك الدور فحسب إنما كانت إرادته في إتمام انجاز عمله وواجبه كبيرا حيث أثبت في تحركات القصبة 1 والقصبة 2 أنه غير مستعد لأن يتيح فرصة أخرى لوزراء وحكومة كانت تتركب في جزء منها من وزراء تقلدوا مناصب عليا في عهد النظام السابق. ويعتبر قيس سعيد المواطنة هي قبل كل شيء الانتماء لوطن أي الانتماء إلى المجموعة الوطنية، ودون حياد عن هذا السياق، شكل المواطنون منفردين لجانا محلية شعبية لحماية الممتلكات العامة وتضافرت جهودهم لحماية ممتلكاتهم، وأصبحت حلقات النقاش تقليدا للتونسيين في الساحات العامة بعد ثورته وتتالت المبادرات من أجل تنظيف المدن، وتكاثف الاهتمام بالشأن العام والميل للمحاسبة، كما أصبحت الاعتصامات والمسيرات ومختلف هذه الأساليب التعبيرية المواطنية عادة تونسية. فظهر الحس بالانتماء إلى الوطن. وقد استنتج سبر آراء أنجزه معهد «سيغما كونساي»، في بداية الشهر الحالي، أن 70 % من المستجوبين الذين مثلوا عينة ممثلة، أكدوا على افتخارهم للانتماء للوطن، في حين لم يعبر سوى أقل من 10% على عدم سعادتهم بالانتماء لمجتمعهم. وكلها مؤشرات نفت الفكرة التي كانت طاغية، والتي صورت المجتمع التونسي قاصرا وغير قادر على استيعاب التحول الديمقراطي، وطالما سوقها أبواق النظام الزائل..ورغم ذلك فان أصواتا عديدة مازالت تحذر من أخطار تهدد التحول الديمقراطي، وترى أن التونسي غير مستعد للديمقراطية.
تهديد
وحذر البعض بأن هناك تهديدا للانتقال الديمقراطي، خاصة أن المرحلة الحالية تشهد غيابا للمؤسسات وتعليقا للدستور، وأكدوا أن مختلف الخطوات التي تتحقق ذات طبيعة "وفاقية" فقط، وأنها لا تخضع إلى أي شرعية فلم يختر الشعب ممثليه لكي يصيغوا قوانين، أو يخططوا لمستقبل البلاد. ومن ناحية أخرى انتقد سعيد أداء الحكومة الانتقالية وأكد على أن الانتقال الديمقراطي مهدد برمته لا المواطنة فحسب، إذ أكد أنه لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي معتمدين في ذلك على أمثلة أمريكية لاتينية وعلى تجارب عدد من دول أوروبا الشرقية دون القضاء الفعلي على الدكتاتورية حسب رأيه ثم البدء في وضع آليات لهذا الانتقال. كما ظهرت في الآونة الأخيرة ما يمكن أن نسميها رجوعا للنعرات "الجهوية والعروشية"، فأخذت بعض أحداث العنف هذا المنحى في الأسابيع القليلة المنقضية في بعض الجهات، وبالعاصمة. وقوبلت هذه الممارسات بالشجب والرفض الشديدين إذ اعتبرها أغلبية التونسيين منظمات وهياكل وأحزاب وأفراد "تتنافى وروح الثورة التحررية" المنادية بتنمية عادلة بين جميع أبناء الوطن وبتونس لكل التونسيين فعلا لا قولا. ويذهب قيس سعيد هنا إلى أن السلطة فشلت في إدماج المجموعة داخل المجموعة الكبرى وتغليب الانتماء إلى المجموعة الوطنية أي إلى الدولة. وأكد أن "السلطة السياسية داخل الدولة هي التي يجب أن تؤسس للمواطنة" وهو ما يحمل بدوره السلطة السياسية الحالية دورا هاما في هذا الاتجاه. من ناحيته اعتبر محمد الكيلاني القيادي بالحزب الاشتراكي اليساري أن التعدي على الحريات العامة والخاصة ومصادرتها هو أكبر خطر على المواطنة، واعتبر أن الحكم الفردي السلطوي والحركات الدينية التي تمس من حرية المواطن وتجبره عن التخلي على بعض حرياته، ،أيضا استحواذ العقائديين العقلانيين على السلطة هي الأمثلة الحية من هذه الأخطار.
هل الانتخابات هي الديمقراطية؟
ويذهب عدد من الملاحظين خاصة المنتقدين للتيار الإسلامي، والتيارات العقلانية العقائدية (المقصود بها هم الماركسيون، والقوميون والبعث) أن المنضوين تحت هذا المرجع يختصرون الديمقراطية في صناديق الاقتراع، وأن الديمقراطية هي الانتخابات فقط، لا الحريات ولا التعددية ولا سيادة القانون ولا احترام الآخر..ويعترف حزب التحرير مثلا بعدائه للديمقراطية ويعتبرها كفرا، غير أنه يطالب بأن يتحصل على تأشيرة العمل القانوني التي تخول له العمل العلني وأيضا خوض الاستحقاقات الانتخابية. ويذهب الحبيب بوعجيلة القيادي بحزب الإصلاح والتنمية أن الانتخابات "هي أرقى آلية من آليات الديمقراطية، غير أن شروط الممارسة الحقيقية للديمقراطية تطال ما بعد الانتخاب"، أي على المواطن أن يكون يقضا وأن لا يمارس باستمرار مهام الرقابة والنقد والمساهمة في الحياة المدنية والسياسية. من ناحية أخرى مازال أغلب المواطنين غير راضين على أداء الأحزاب السياسية، اذ يعتبر المتابعون أن الأحزاب السياسية وحتى الكلاسيكية منها مازلت تسبق المصالح الذاتية العرضية على قضايا الوطن الكبرى، تركز على هيكلتها الذاتية وعلى الدعاية الخطية دون سواها، كما أن عددا منها طالب بتأجيل الموعد الانتخابي للمجلس التأسيسي بتعلة عدم استعداده لهذه المحطة دونما أي اعتبار للوضعية الانتقالية للبلاد، وغياب الشرعية فيها والتهديدات التي قد تتعرض لها البلاد في ظل هذا الوضع. ويصف الحبيب بوعجيلة أداء الأحزاب بأنها " تواصل تعاليها على المشاغل الحقيقية للشعب" كما أن المشهد مازال يعيش مرحلة "النخبة السياسية المتعالية"، وهو ما يفسر بدوه الخلط في المفاهيم التي أصبحت ترهب المواطن لا تريحه(العقلانية، العلمانية، اللائكية، الحركات الإسلامية، المساواة...). وفي المقابل هناك إجماع على أنه لم تكن النخب "الثورية" ولا أكثر الأحزاب "راديكالية" تتوقع أن يسقط النظام الزائل، لم يكن لا "العقلانيون" ولا "الإسلاميون" ولا أي من الصفوة أو المثقفين يطرح على نفسه مهام الإجهاز على سلطة حكمت البلد بالحديد والنار وصادرت الحريات العامة والخاصة ونهبت خيرات هذا الشعب.. فوحده الشعب أزال الديكتاتورية، ولكن ورغم التهديدات ورغم تواصل تكلس بعض العقليات...وحده الشعب هو القادر على تكريس الديمقراطية وترسيخها.