تونس – كان – فرنسا – الصباح من مبعوثتنا الخاصة حياة السايب بدأ العدّ التنازلي في «كان»، وبدأ الفضول يزداد حول سعيد الحظ الذي سيحظى بالسعفة الذهبية تلك الجائزة الكبرى لمهرجان "كان" السّينمائي الدّولي التي ينتظر أن يكشف عنها في سهرة الليلة حيث تختتم الدورة الرّابعة والستّين لهذه التظاهرة السينمائية الكبرى. ومن أبرز الأفلام المرشحة بقوّة للجائزة نذكر مثلا الفيلم الجديد للمخرج الإسباني"بيدرو آلمودوفار". و"آلمودوفار" هوأحد السينمائيين الأكثر ارتيادا للمهرجان حيث كانت إطلالته مساء أول أمس على السجاد الأحمر الخامسة كما أنه من بين المخرجين الأكثر تتويجا بالسعفة الذهبية. الفيلم بعنوان "لا بيال كي أبيتو" أو "أين يسكن الجلد" وكان قد حظي مساء أول أمس بتحية كبيرة قبل العرض أثناء المرور على السجاد الأحمر وقطع درجات السلالم المشهودة أمام آلاف المصوّرين وآلاف العيون الفضولية من سكان «كان» وزوارها. مرّ طاقم الفيلم يقوده «بيدرو آلمودوفار» الذي كان محاطا بالخصوص بالنجم «أنطونيوبانديراس» وببطلة الشّريط الشّابة «إلينا آنايا» التي توقع لها نجم هوليود بنفسه مستقبلا كبيرا. جمال وغرابة كان الجمهور وكما هي العادة مع أفلام «آلمودوفار» في الموعد وبأعداد غفيرة بالقاعة الكبرى: «Grand Théatre Lumère « بقصر المهرجان حيث تعرض جميع الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية والتي يبلغ عددها عشرين فيلما. كان آلمودوفار في هذا الفيلم الجديد وكعادته لا يعترف بكل ما هو متعارف عليه ومألوف في السينما. للرجل قدرة رهيبة على الخروج عن السائد وإعادة تشكيل الأمور فتبدو على غرابتها العالية في قمّة جمالها. تدور أحداث الفيلم المقتبس(بتصرف كبير) من رواية (كانت قد صدرت سنة 1995) حول الطبيب الجراح «روبار لادغار» الذي جسد شخصيته بقدرة عالية النجم «أنطونيو بانديرس», الطبيب الذي نتفطن من خلال تواتر الأحداث أن حياته لم تكن طبيعية. تتعرض ابنة الطبيب المريضة أصلا إلى محاولة اغتصاب ينجر عنها وفاتها بعد خضوعها للعلاج النفسي لفترة طويلة فينتقم لابنته ولكن كيف؟ هنا تكمن غرابة الأحداث ونتحول من عالم الممكن إلى دنيا الخيال العلمي المذهل. يعيش الطبيب في منطقة بعيدة عن وسط البلاد باسبانيا وهي في الحقيقة منطقة بعيدة عن الفضول لأن الطبيب لا يقوم بعمله وخاصة بأبحاثه في نطاق الشفافية الكاملة وهو وكما عبر في أحد مشاهد الفيلم لا يؤمن بأن هناك من يلتزم فعلا بما يسمى بأخلاقيات البحث العلمي في مجال الطّب. طريقة الانتقام المذهلة هذه تتمثل في اختطاف الشاب الذي اكتشفه بنفسه وسجنه ببيته الذي يوجد به كذلك مختبره المجهز بأحدث التقنيات الحديثة ويحوله من شاب إلى امرأة كاملة الأنوثة أي من «فيسانتي» إلى «فيرا».لا يصير هذا التحول دفعة واحدة بل نتحول كامل مدة الفيلم (حوالي ساعتين) من مشهد غريب إلى مشهد آخر أقل غرابة. آلمودوفار أخذ كامل احتياطاته ليجعل المشاهد يتوصل رويدا رويدا إلى أن حدثا ما سيحصل وأن علاقة جديدة مخالفة لما يمكن أن نتوقع في البداية ستحصل. وحدث بالفعل ذلك. وقع الطبيب في غرام الشابة التي كانت في الأصل من تكوينه وانتهى من تحريرها من السجن ليعيش معها علاقة شبه عادية. لكن ما لم نكن نتوقعه ربما أن تتكرر مأساة «بيغماليون» في هذا الفيلم. لم تتكرر المأساة فحسب حيث تحول الطبيب الذي لا يوقفه شيء حتى أنه صنع جلدا اصطناعيا للفتاة التي كما قلنا تحولت من شاب يافع إلى امرأة كاملة الأوصاف, انتقل من سجان يحمي «مخلوقته» إلى سجين وإنما تمكنت الفتاة من الفرار ومن الانتقام وبطريقة مذهلة هي كذلك. مأساة «بيغماليون» تتكرر دفع بيغماليون -الذي كان يتصور وهو يحيط مخلوقته الرقيقة بكل عناية محاولا أن يجعل منها شيئا تابعا له - الثمن باهظا هذه المرة. لكن آلمودوفار لم يكشف عن ذلك دفعة واحدة ولم تكن الأحداث متسلسلة وإنما كان المشاهد إزاء عمليات عودة إلى الوراء في أكثر من مرة. لا يستخدم آلمودوفار كثيرا من الممثلين لكن من يوظفهم لفيلم من أفلامه يصنع منهم (سينمائيا) العجب. لا يتوقف الأمر عند البطلين وإنما يهم تقريبا كل الممثلين. تصبح كل الأدوار مهمة وكل الشخصيات تشد الانتباه حتى وإن كان ظهورها قليلا. شخصيات آلمودوفار غالبا مركبة. كل واحدة من بينها لها عالمها الخاص والمعقد وهو كما هو معروف يشتغل كثيرا على الجوانب النفسية في البشر ويحاول أن يجعل ما هو خفي أو باطني في الإنسان يخرج إلى السطح من خلال الصورة وتعبير الوجه وانفعالات الشخصية. كلما تسلم آلمودوفار شخصية ما إلا وأخضعها إلى مشرطه. ضمّن المخرج فيلمه مشاهد خفيفة حتى يقلل من درجة القتامة حتى أن الجمهور كان يضحك أحيانا بقوة لمشهد ما أولموقف ما. غرابة الأحداث وفلسفته الخاصة جدا في السينما وكسره المتواصل للقواعد المعروفة ليس هذا فقط ما يعطي لافلام آلمودوفار قيمة كبيرة. الرجل فنان حقيقي يقدم الفيلم وكأنه يرسم لوحة زيتية وهو يمنح الموسيقى مكانة كبيرة فيتحول الفيلم إلى انجاز فني مذهل وهو ما حدث كذلك في فيلمه الجديد. كان الجمهور على موعد مع مهرجان من الصور الصافية المؤطرة بدقة كبيرة ومع أحداث يجمع فيها بين الحركة وبين المشاعر ومع أداء تمثيلي متقن بشدة. تدب الحياة بقوة في أفلام آلمودوفار حتى وإن كانت مشاهد القتل والموت والدم لا تكاد تغيب عن أعماله وتحدث أشياء في الفيلم تجعل حتى لحظات الصمت والسكون تعج بالحركة وتنبض بالحياة. غير عادي هذا الفنان وكل ما يلمسه بين يديه يتحول إلى قطعة فنية حتى أن لحظات صعوده وكامل طاقم الفيلم على درجات السلالم الحمراء الشهيرة التي يخصون بها في «كان» النجوم والمبجلين فقط وكل من تمكن من الظفر ببطاقة دعوة خاصة للعملية المشهودة المعروفة ب Les montées de Marches كانت استثنائية واستغرقت وقتا أكثر مما هو معتاد. قد يكون من المفيد الإشارة إلى أننا تمكنا من لقاء خاطف مع الممثل «أنطوني بانديريس» الذي يتعامل كثيرا مع المنتج التونسي طارق بن عمار وكان متحمسا جدا عندما تعرف إلى عدد من الإعلاميين التونسيين وحيى بتلقائية كبيرة الثورة التونسية وردد أكثر من مرة أنه يكبر في التونسيين الذين يسميهم بأصدقائه ما قاموا به وجعلهم محط إعجاب العالم. مع العلم كذلك وأن "أنطوني بانديرس" و"إلينا آنايا" سيحلان قريبا في تونس لتصوير فيلم جديد في بلادنا والمنتج طارق بن عمار ليس بعيدا عن هذه الحكاية.