بقلم صالح عطية البيان الذي تلاه الناطق الرسمي باسم الحكومة، الطيب البكوش أمس، يلخص وجهة نظر الحكومة من مقترح تأجيل الموعد الانتخابي الخاص بالمجلس التأسيسي. فقد حرصت الحكومة على توضيح موقفها من الانتخابات، من خلال التأكيد على أنها أوفت بالتزاماتها القانونية والإجرائية باتجاه موعد 24 جويلية، ولم تتخلف عن توفير الظروف المطلوبة لإجراء الانتخابات منذ 3 مارس الماضي، فيما أمضى رئيس الجمهورية، فؤاد المبزع الأمر القاضي بدعوة الناخبين للاقتراع منذ يوم الجمعة المنقضي، ويفترض أن يكون صدر أمس في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، ما يعني أن الحكومة سايرت الموعد الانتخابي، أو هكذا أرادت أن تقول للرأي العام التونسي. وكما ألقى كمال الجندوبي، رئيس اللجنة العليا للانتخابات بالكرة في ملعب الحكومة والأحزاب، فعلت الحكومة الشيء ذاته، في إطار شبيه بلعبة ال "بينغ بونغ"، بحيث قدمت جردا كاملا عن موقفها والإجراءات التي اتخذتها لكي تجرى الانتخابات في موعدها، ثم أوصت بتكثيف المشاورات مع الأحزاب والمجتمع المدني للتوصل إلى موقف موحد بشأن التأجيل من عدمه. حاول كل طرف حينئذ، "تبرئة ذمته" أمام الرأي العام، لكن الحقيقة لها وجه آخر. فالحكومة، بالقانون المنظم للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، "ربطت" نفسها وأفق تحركها برباط وثيق، وجعلت الهيئة أكبر حجما من الحكومة، بل كانت الهيئة عبارة عن رئاسة للدولة، تتمتع بكامل الوقت والهامش وحرية اتخاذ القرار، من دون أن يكون عليها رقيب، وإذا أضفنا إلى ذلك تركيبتها التي كانت "موجهة" سياسيا وإيديولوجيا، وإن تغلفت بغلاف "الشخصيات الوطنية"، أمكن لنا فهم الأسباب التي حولت الهيئة العليا إلى فضاء فوق القانون والدستور المعلق والحكومة والرئاسة المؤقتتين. لذلك تصرفت الهيئة بحرية غير مسبوقة حتى في الديمقراطيات التقليدية المعروفة، بحيث فتحت مجال الجدل الواسع الذي لم يكن مضبوطا بوقت، وتحولت اجتماعاتها إلى محاكمات سياسية وإيديولوجية في نوع من "الفنطازيا" الفكرية والسياسية، إلى الحدّ الذي كادت معه أن تقوم بدور المجلس التأسيسي، من خلال تحديد "ميثاق جمهوري" يضبط أفق الدستور القادم، ويضع له سيناريو محددا من الآن، كل ذلك دون قدرة لأي كان على أن يضع للهيئة علامة "قف". وهكذا خسرت الهيئة الكثير من الوقت وجعل اختيارها للجنة العليا للانتخابات، يتم بصورة متأخرة، بما أدخل موضوع الموعد الانتخابي المقرر في جويلية، في نفق مسدود، وأوصل الأمور إلى المأزق الراهن. وهكذا تبدو البلاد اليوم أمام خيارين، أحلاهما مر: إما الوفاق سياسيا على تاريخ 24 جويلية، مع القيام بجهد جبار للتوصل إلى إجراء الانتخابات، مع ما يعني ذلك من فرضية تنظيمها في أجواء محتقنة، وضمن ظروف موضوعية صعبة ومعقدة، إلى جانب فرضية أن تسعى بعض الأطراف إلى "إفسادها" وتعطيل عملية تنظيمها، أو تأجيل الانتخابات إلى 16 أكتوبر، وهو ما قد يفتح البلاد على احتمالات عديدة، سياسية وأمنية واقتصادية، لا يمكن للمرء أن يتكهن بها، لكن مؤشراتها غير خافية. لكن جميع هذه الفرضيات تبقى بأيدي الهيئة العليا للانتخابات، التي تملك قانونيا صلاحية قرار التأجيل من عدمه، بل حتى الضغوط السياسية التي يمكن أن تخضع إليها، ستجعلها أمام حلين: إما إجراء الانتخابات في ظروف ضاغطة، أو الاستقالة، بما يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، بحيث تكون النتيجة، تأجيل الانتخابات، وهذا ما سوف يجعل الوضع السياسي "على كف عفريت"، لذلك يحتاج الأمر إلى حكمة الجميع وتوافقهم بعيدا عن أية حسابات مهما كان لونها أو أفقها أو اتجاهها.