تواتر الثورات وتصاعد الآراء الرافضة والمنتقدة للأنظمة والحكومات العربية، وما يكتنفها من تجاذبات فكرية أو ثقافية أو سياسية أو إيديولوجية، شكلت مدعاة لطرح استفهامات حول وضعية الفكر العربي في ظل الظروف والتطورات الحاصلة وما يرافقها من تغيّر في مستوى مطالب وانتظارات المواطن العربي لا تحيد عن الحرية والعيش الكريم. أمر يستوجب ضرورة إعادة النظر في الوضعية الفكرية العربية على اعتبار أن واقع هذه المجتمعات أصبح في حاجة إلى فكر فلسفي جديد أو خطاب فكري معاصر يعبر عن مشروع ثقافة تقطع مع المنظومات الفكرية والنقدية القديمة ولعل السؤال المطروح بإلحاح أكبر هو الآتي : ما هو راهن للفكر الفلسفي العربي اليوم وإذ يطرح السؤال فلأن الفكر العربي يعد جزء من تطور تاريخ الفكر الإنساني ولأن عقل المثقف هو في الحقيقة عقل الواقع . هذا السؤال طرحناه على عدد من الأساتذة والأكاديميين المختصين في المبحث الفكري والفلسفي في البلدان العربية لا سيّما في ظل ما تشهده النخب الفكرية والثقافية من غياب عن الحراك السياسي والاجتماعي رغم الحاجة الملحة إلى آراء وقراءات هذه الأطراف في مسار التأسيس وإعادة البناء والتنوير خاصة أن الثورات التي عرفتها بعض الشعوب على مرّ التاريخ كانت قد قامت على الفكر الفلسفي.
أبو يعرب المرزوقي (تونس) واجب الفلاسفة إزاء حضارتهم
الإجابة عن هذا السؤال يقودني إلى طرح مسألتين على غاية من الأهمية تتعلق الأولى بمدى علاقة الفلاسفة والباحثين والدارسين المختصين في الميدان ومدى تكوّنهم بالقياس إلى المعايير الأكاديمية في الجامعات الراقية. وتتمثل الثانية في مدى قيام الفلاسفة بواجبهم وإزاء الحضارة عامة وحضارتهم خاصة لأن الفلسفة ليست مجرد علم نظري بل هي إلزام خلقي مبني على معرفة علمية بشروط حياة الإنسان الخُلقية فردا وجماعة. في المستوى الأول، قلّ أن نجد من الباحثين العرب من يسعى جهده لكي يوفر الشروط الممكنة ليكون مستواه في اختصاصه قابلا للمقارنة بزملائه في الجامعات المحترمة. أما في المستوى الثاني فأساتذة الفلسفة مثلهم مثل غيرهم من النخب لم يتمكنوا بعد من التحرر من الإغراء الناتج عن التبعية للنخب السياسية وقلّ أن نجد من يصمد أمام هذا الإغراء فضلا عن الإغراء أمام التخويف والترغيب السياسيين.
محمد عثمان الخشت (مصر) الثورات وتغيير العلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم
لا شك أن الثورات العربية أحدثت تأثيرا كبيرا في العقل العربي لأنها جاءت من الجماهير ولم تأت من النخبة لكي تعبر عن هموم الناس وعجز الأنظمة العربية عن تلبية طموحات شعوبها، وعلى غير المتوقع جاءت هذه الثورات ليست تعبيرا عن أزمة اقتصادية في رأيي- وإنما عن إرادة الشعوب في تحقيق الكرامة وحياة سياسية تستجيب لحقوق الإنسان. لقد سئم المواطن العربي أن يكون أداة في يد الحكام وأراد أن يتحول إلى غاية، أن يتحول إلى وسائل وأدوات لتحقيق حياة كريمة للشعوب. هذه الحركة الفكرية تكشف عن حدوث تحول في جدل العبد والسيد. فقد صار المواطن هو السيد والحاكم هو العبد. المواطن هو الذي يختار وهو الذي يقرر والحاكم هو الذي يستجيب وينفذ. هذا المنطق الجديد يضع الفكر العربي أمام ضرورة التغيير بحثا عن الإنسان وعن التاريخ. كما أن حركة الفكر سوف تتغير كي تكون تعبيرا عن هموم الوطن وهموم الناس وستتخلى عن كونها تنظيرا وتأسيسا للسياسات المستبدة. وهذه الثورات تطرح تحديا جديدا أمام الفكر السياسي العربي ، حيث يتعين على المفكرين العرب أن يبحثوا عن نظرية سياسية جديدة تلبي تحديات إقامة الدولة وتحديات إقامة ديمقراطية تداولية وتشاركية تشاورية، وأعني بذلك أن لا تكون الديمقراطية تعبيرا عن حكم الأغلبية وإنما فضاء يتيح المشاركة والتمثيل والفاعلية للجميع بما فيهم الأقليات، حيث الشعب هو الذي يحكم من خلال تمثيل برلماني يعبر عن كل أطيافه وليس فقط عن الأغلبية. كما يكون النظام السياسي نظاما يعبر عن الإنسان. (رجلا أو إمرأة ) وليس نظاما ذكوريا تغيب فيه النساء . ومن أكبر التحديات كذلك أمام المفكرين العرب إيجاد نظرية في الدين يتحول فيها من نظام لاهوتي ينحصر في الطقوس والشعائر والشكليات ، إلى نظام يتوحّد فيه الديني بالمدني وتغيب فيه سلطة رجال الدين وتسيطر عليه مفاهيم العقد الاجتماعي والتفكير العلمي ويعيش فيه الإنسان من أجل الإنسان.
أحمد شحلان (المغرب) العودة إلى الأصول
حسب رأيي اليوم يجب أن نعود إلى أصولنا العربية بكل تراثها بما في ذلك ما قبل الإسلام وأن نأخذ هذا التراث العربي الغني ونتفهمه ونصنف أعلامه من نظن نحن أنهم يميلون جهة اليمين أو من نظن أنهم يميلون جهة اليسار ونحلل أعمالهم ونستخرج الجميل منها مما يحث على العلم والمعرفة. وعندما أقول ما يحث على العلم أعني العلوم الحقة من الرياضيات والموسيقى والطب ونوالمها مع ما هو موجود اليوم لدى الغرب المسيطر بما تيسر له. وإذا عدنا بهذا الشكل إلى تراثنا يمكن ان نستخرج منه المفيد والنافع وأن نستخرج منه ما يصنع العلم من جهة وما يريح النفس من جهة أخرى لأن عالم اليوم يحتاج إلى التوازن المعرفي. وقد عرفت الحضارة الإسلامية في مزهر أيامها هذا التوازن.
رغم أني مختص في الفكر الفلسفي للقرون الوسطى إلا أني أتابع بانتظام كل المبادرات والتجارب الفلسفية المتعلقة بالفكر العربي تحديدا نظرا لعلاقتي الوطيدة بالراحل محمد عابد الجابري. أعتقد أن الثورات العربية وموجة الانتفاضات الشعبية على الأنظمة التي ما انفكت تشهدها هذه البلدان لها خلفية ثقافية فكرية وعقلية وهي بدورها ناتجة عن تأثير ترجمات الفكر الغربي وترسبات الفكر الفلسفي العربي القديم وهو ما يستوجب ضرورة تفعيل العقل وانتاجاته ورموزه من أجل إيجاد الطرق والسبل الكفيلة بالخروج منها بأفضل النتائج. وما يساعد على ذلك أن وعي هذه الشعوب وخاصة الأجيال الصاعدة منفتح على عديد الأفكار والمذاهب الفلسفية التي تستمد منها السياسات أنظمتها.