كثيرة هي المبادرات والأعمال والأفكار التي تحتفي أو تؤرخ للثورة التونسية باعتبارها الثورة التي أوقدت شرارة الاحتجاجات والثورات في الوطن العربي وغيره ورسمت أبجديات الانتفاضات على الأنظمة الفاسدة والجائرة وطرق رفض قمعها والتصدي السلمي لعنفها لعل أبرزها ما تجلى في الأفلام الوثائقية والأشرطة السينمائية والأغاني وما تناقلته وسائل الإعلام الوطنية والعربية والعالمية عن الحدث والأحداث التي رافقته فضلا عن الصور والمعارض والكتب والندوات التي أقيمت لذات الغرض. ومن بين هذه المبادرات الجديرة بالإهتمام الفيلم الوثائقي الذي تتواصل حاليا عملية تصويره، والتي كانت انطلقت خلال الأيام الأخيرة بمخيمات اللاجئين بالشوشة ورأس جدير ببن قردان بالجنوب التونسي. الفيلم للمخرج التونسي المقيم بالمجر علي المرزوقي ومن إنتاج التلفزة الوطنية التونسية ويتمحور موضوعه حول اللاجئين بهذه المخيمات وما لاقوه من حسن استقبال ومعاملات حسنة من قبل المواطنين التونيسيين عامة وأبناء الجهة خاصة، وهو انتاج موجه لشريحة أخرى من الجماهير وليتم عرضه في أطر مكانية وزمانية مختلفة عن المألوف لمثل هذه النوعية من الإنتاجات الفنية -حسبما أفاد بذلك مخرج العمل- الذي خطط ومهد وأجرى كل الاتصالات من أجل إتمام هذا المشروع وإنجاحه من خلال وضع السيناريو والتصور الإخراجي للفكرة وذلك بترشيح تونس لنيل جائزة نوبل للسلام.
رسالة القطع والتغيير
وحول دواعي الاختيار لهذا الفيلم، الذي لم يتحدد بعد عنوانه، أفادنا علي المرزوقي أن الأحاسيس التي غمرته تجاه هذا الوطن وأهله وهو ببراغ- أين يقطن منذ أكثر من عشرين سنة- كانت حافزا له ليبحث عن وسيلة وطريقة أو مبادرة عملية يرد بها الجميل لوطن أحبه إلى حد العشق إلا أنه خرج منه مرغما. وأوضح أنه سبق أن ترجم هذا الحب في جملة من الأعمال التي أخرجها سواء من خلال تجربته كمخرج بالتلفزة الوطنية في بداية مشواره أواخر الثمانينات وبداية التسعينات أو في بعض الأعمال الوثائقية الأخرى التي أنتجها لفائدة قنوات تلفزية أجنبية. حيث يقول:» كنت على اطلاع على كل حيثيات الحراك والأحداث التي عاشتها تونس ومواطنوها إثر سقوط النظام البائد. وقد زرتها في مرة أولى خلال شهر فيفري الماضي، ولما عدت إلى المجر كنت مسكونا بأفكار ومشاريع عديدة لكن شدتني فكرة تناقلتها وسائل الإعلام العالمية بإكبار وإعجاب وأعطتها حيزا كبيرا من الاهتمام ألا وهي ما بدر من التونسيين إثر تصاعد الأحداث في ثورة الشعب الليبي على نظام الحكم هناك وخاصة أهالي بن قردان الذين فتحوا منازلهم وسخروا جهدهم ومالهم، كل حسب إمكانياته، لمساعدة اللاجئين من الفارين من شبح الموت من ليبيا.» واعترف أنه استغل هذا المعطى ليقدم انجازا يكون في مستوى الثورة التونسية التي أحدثت منعرجا في سياسيات ومواقف الدول الغربية تجاه الشعوب العربية من ناحية وقطعت بذلك مع الصورة النمطية عن هذه الشعوب معترفا أن تحمس إدارة التلفزة الوطنية لتنفيذ وانتاج هذا الفيلم من العوامل التي حفزته على المضي في مسار التنفيذ للفيلم الذي يقدم المواطن العربي في صورة جديدة مخالفة لما ألفه عنها الآخر الغربي، إذ يقول:» الفيلم سيكون مبادرة لرد الاعتبار للمواطن العربي عامة من خلال تقديم صورة حقيقية وعينة من سلوك وطرق تعامل المواطن التونسي كعربي مسلم مع الأجنبي الذي يختلف عنه في الحضارة والثقافة والإيديولوجيا...»
وحول الرسالة التي يحملها هذا الفيلم وأهدافها أضاف محدثنا:» الفيلم يوثق جانبا من وقفة أهالي بن قردان وبعض المواطنين التونسيين من مختلف الجهات الذين تطوعوا لاستقبال وفود اللاجئين الفارين من التراب الليبي الذين هبوا بالآلاف إلى التراب التونسي ودخلوا تحديدا من نقطة العبور الحدودية رأس جدير. قدم التونسيون درسا في العمل الإنساني والسلوك الحضاري للشعوب والمنظمات الأممية وهياكل الاغاثة الانسانية والحقوقية..رغم أن بلادنا في تلك الفترة تمر بمرحلة مخاض عصيبة وما شابها من انفلاتات وتجاذبات سياسية واجتماعية..وذلك على امتداد حوالي أسبوعين دون مساعدة من أي من هذه المنظمات الدولية.» وبين أن الصورة التي تتناقلها الأوساط والأنظمة الدولية عن العربي المسلم تقدمه كإرهابي يتشفى من قتل الآخرين لكن هذا الفيلم سيقدم هذا المواطن العربي المسلم في صورة تختلف عن تلك التي تسببت فيها أحداث 11سبتمبر 2001 أو حادثة انفجار محطة القطار بمدريد سنة 2002 وغيرها من الصور الأخرى المتعلقة بتفجير مترو الأنفاق بلندن أو تهديم التماثيل البوذية بأفغانستان وهي الصور التي سيعتمدها المخرج في مقدمة فيلمه. وأوضح محدثنا أن هذا التوظيف ذو مغزى «مقاراناتي» بحت لتطل صورة التونسي الذي أخلى منزله من أجل لاجئ افريقي أو آسيوي أو أوروبي ولم تكن عوامل اللغة أو اختلاف المعتقد عائقا أمام المبادرات الإنسانية للمساعدة بتوفير الملجأ والمأكل والأغطية والأدوية فضلا عن الخدمات التي استأثرت بالاهتمام ليلا ونهارا. وسيمرر من وراء هذا العمل صورة للمسلم الذي يتميز بالأخلاق الحسنة وآداب المعاملة وليس بالأحزمة الناسفة أو القمع والرفض... وفيما يتعلق بالهدف من انجاز هذا العمل يقول:» كل الأطراف المساهمة في انجاز وانتاج هذا الفيلم الوثائقي تحرص على الانتهاء من انجازه في الإبان ليكون في أبهى وأبلغ معنى وأجمل صورة لأن عرضه الأول في سبتمبر القادم بالجمعية العمومية للأمم المتحدة في جلستها السنوية في إطار ترشيح المجتمع المدني التونسي لجائزة نوبل للسلام وسيكون بعديد اللغات منها الأنقليزية والعربية». وعبر مخرج الفيلم عن تفاؤله بإمكانية تحقيق هذا الهدف خاصة أنه سبق أن تحصلت منظمة الطاقة النووية على الجائزة.
قرية مصغرة
من جهة أخرى أكد مخرج الفيلم أن إنجاز الفيلم دفعه للقيام بجملة من التحديات لتصوير عمليات التعاطي مع اللاجئين، منها تحويل مخيمات الشوشة ورأس جدير ببن قردان إلى قرية صغيرة تجسد في حقيقة الأمر واقع بلد وإقليم عربي، لتضم هذه القرية -كما ارتآها المواطن التونسي المتطوع آنذاك- رياض للأطفال وأماكن للعبادة باعتبار أن وفود اللاجئين الذين تجاوزوا الآلاف ينتمون لمختلف الديانات إضافة إلى تخصيص فضاءات لتقديم الخدمات الطبية والأغذية والأغطية وغيرها من الخدمات الأخرى ذات المنحى الإنساني البحت وذلك دون انتظار جزاء أو شكور. واعتبر علي المرزوقي أن أبلغ تحد في الصورة عملية تحويل مئذنة الجامع إلى إذاعة محلية ناطقة بلغات اللاجئين قصد توجيههم وارشادهم وبرر الغرض من هذا التوظيف بالحرص على اثبات أن الاسلام بمؤسساته هو أداة للمساعدة والتواصل بين الحضارات والأديان والشعوب.