قطع الرّوائي المغربي الشّهير الطّاهر بن جلّون الحائز على جائزة "غنكور" الأدبيّة الفرنسيّة، من خلال روايته الجديدة "بالنّار" الصّادرة مؤخّرا عن (دار غاليمار) الفرنسيّة مع ذلك التّوجّه "التّقليدي" الّذي طبع مجمل أعماله في الكتابة الرّوائيّة والقائم أساسا على الاشتغال والتّركيز على كلّ ما هو فنطازيا وغرائبيّة ومرأة وبكارة ودين وجنس وكبت في المجتمعات العربيّة الاسلاميّة... في رواية «بالنّار» تحوّل الطّاهر بن جلّون - أو يكاد - الى واحد من أدباء الواقعيّة.. أمّا الّذي حمله - أو ربّما «أكرهه» على ذلك - فانّه الشّهيد محمّد البوعزيزي الّذي تتناول الرّواية سيرته... البوعزيزي ، الشّابّ التّونسي الّذي أضرم النّار في جسده وأشعل الثّورة ضدّ الظّلم والدّيكتاتوريّة والفساد - لا فقط - في ربوع تونس وانّما في بلدان عربيّة كثيرة... حكاية محمّد البوعزيزي وسيرته كما «يحكيها» الطّاهر بن جلّون في رواية «بالنّار» هي حكاية كلّ شابّ عربي في مجتمعات أنظمة التّهميش والفقر والفساد والاستبداد في البلدان العربيّة ... بائع متجوّل من عائلة فقيرة يكدح من أجل اعالة أسرة تضمّ أمّه المريضة وخمسة اخوة ( فتاتين وثلاثة شبّان ) ... أمّا مورد رزقه فهو - وكما في القصّة الحقيقيّة - عربته الخشبيّة الّتي يعرض عليها بضاعته (الخضر والغلال) الطّاهر بن جلّون ولئن بدا وفيّا لبعض «حيثيّات» حكاية البوعزيزي الأصليّة وخاصّة في جوانبها الماديّة والاجتماعيّة فانّه أضفى على شخصيّته بعدا «تراجيديّا» جعله يبدو أقرب الى شخصيّة روائيّة متخيّلة تعيش أجواء مشحونة بكلّ ما هو عاطفة وتحدّيات ومآس وأحلام وطموحات ... فهو (البوعزيزي) في رواية «بالنّار» يصارع ويتألّم ويعشق ويحلم... يصارع من أجل لقمة العيش الشّريفة والحلال لنفسه وعائلته ويتألّم من واقع الظّلم الّذي يطبع منطق العلاقات في مجتمعه ... (فالبوعزيزي حاصل على شهادة جامعيّة في رواية بن جلّون ) ولكنّه لم يتمكّن من الحصول على شغل ... ويعشق ويحبّ لأنّ الرّواية تحكي - من بين ما تحكي - قصّة تعلّقه بفتاة أحبّها ويريد أن يتزوّجها ... ولكنّ كلّ هذا التّخييل السّردي الّذي اعتمده الطّاهر بن جلّون في روايته «بالنّار» الّتي كتبها عن البوعزيزي لم يرق الى مستوى «سحر» ومبالغات عوالم الفنطازيا الّذي حفلت بها مجمل رواياته السّابقة الّتي تبدو وكأنّها كتبت لذلك «الآخر» الثّقافي والحضاري بقصد تلبية رغبات وهم ( بسكون الهاء ) الصّورة الّتي يحملها عن المجتمعات العربيّة الاسلاميّة وعن ثقافة هذه المجتمعات وانسانها ... الطّاهر بن جلّون في رواية «بالنّار» يبدو واقعيّا بل نكاد نقول «محفوظيّا» ( نسبة لنجيب محفوظ ) ... وما من شكّ أنّ الّذي «أجبره» على ذلك انّما هو - لا فقط - البوعزيزي وانّما أيضا الثّورات العربيّة الّتي أشعلتها نار البوعزيزي الّتي لا تزال تسري في هشيم أنظمة الفساد والقمع والدّيكتاتوريّة في البلدان العربيّة - والعبارة للشّاعر سميح القاسم-