هذا فحوى لقاء رئيس الجمهورية بمحافظ البنك المركزي..    رئيس الجمهوريّة يطّلع على عدد من ملفات الفساد خلال لقائه برئيسة لجنة الصّلح الجزائي    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أبو عبيدة يتحدّى بالصورة والصوت    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    القبض على 24 منفّذ "براكاج" بالأسلحة البيضاء روّعوا أهالي هذه المنطقة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    بنزرت: الاحتفاظ ب23 شخصا في قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائية مسعودة بوبكر تتحدث ل«الصّباح»:
لقاء الثلاثاء
نشر في الصباح يوم 17 - 03 - 2009

التفكير في التربية على القراءة بات أمرا ضروريا لصناعة قارئ جيّد في هذا العصر
تونس الصباح: مسعودة بوبكر واحدة من الأقلام الروائية التونسية النسائية التي استطاعت أن تؤسّس توجها خاصا في علاقتها مع الإبداع الروائي... انطلقت ملامحه الأولى عام 1994 ب«طعم الأناناس» لتقتحم عام 1997 تجربة التأليف الروائي ب«ليلة الغياب» الحائزة على جائزة بلدية قابس للرواية ثم في 1999 كان الموعد ثاني الروايات «طرشقانة»... لتتوالى
الإصدارات أكثر ثراء وتنوّعا. كتابات مسعودة بوبكر في شتّى صنوف الإبداع مسكونة بهاجس السفر والترحال بحثا عن آفاق رحبة جديدة في الكتابة عندها عالم فسيح بلا بداية ولا نهاية والكتابة عندها أيضا الحضور المؤثّر والفاعل لما يحيط بها في داخلها... في ذاتها... تعيش الألم فتكتبه بكبرياء وشموخ... مسعودة بوبكر احتفت هذه الأيام بصدور روايتها الجديدة «الألف والنون».. وهذا اللقاء أردناه أن يكون غوصا في البعض من تفاصيل الإبداع القصصي والروائي عند مسعودة بوبكر:
أجرى الحوار: محسن بن أحمد
* كلّ كاتب ينتابه شعور أنّ روحه الأدبيّة مكوّنة لجنس أدبيّ... مسعودة بوبكر الكاتبة ايّ جنس أدبيّ تجد روحها الأدبيّة؟
- روحي تسكنها حشود حكايات تتناسل وتتّخذ أبعادا متفاوتة... روحي تسكن برجا مشيّدا عاليا من بوح المجالس التي ارتدتها وأنا صبيّة: مجالس الرجال في المقهى ومجالس النساء في ليالي السّهر حيث لم نعرف أسر التلفاز بعد. أحلّق مع حكاية جارتنا العجوز إلى عالم الجن والملائكة وفاطمة بنت الحوّات وعلي ولد السلطان وسلاّب لعقول وأم الصّبيان الطائر الذي يختطف الرضّيع من مهده. ثمّ باتت حكايات الكون تسكن روحي تقفز إلى مدارها الواسع من طيّات الكتب التي عشقتها باكرا فاكتشفت أنّ الكون عناصر تتحاكى والتّاريخ حكايات تتناسل والذّاكرة خزينة لألف حكاية وحكاية وأنّ للذّاكرة شهريار النسيان يتربّص بها لولا الكتابة. لذلك استهواني السّرد والنص الذي يتضمن حكاية فيها اهتزاز الوجدان وسؤال العقل واستنفار الوعي والعين الناقدة, فاستجاب جنس الرّواية بالدّرجة الأولى لكلّ هذا.
كان لمؤدّب قريتنا تأثير عميق في ميلي للحكاية بما يقصّ علينا من قصص القرآن فأهيم خلف سفط صغير من القصب مثل مهد دمية فيه طفل صغير أودعته أمّه مياه النّهر ليكبر في ما بعد وتصبح لديه عصا سحريّة ويواجه غولا ضخما مرعبا اسمه فرعون. أو أدخل إلى جوف حوت ضخم لأتلصّص على نبيّ يسبّح في كرش الحوت وحين يطلع إلى الرّمال تنبت حوله شجرة يقطين وتطوّقه بزهرها العملاق الأصفر... وعن نبيّ البئر الوسيم... وصاحب النّاقة التي نحرها الكفرة، ومريم التي تأكل تمرا وطفلها يحدّث النّاس وهو رضيع في المهد.. ثمّ أصغي إلى مؤدّبنا ينشد للبصيري قصّة محمد عليه الصلاة والسلام ليلة المولد بصوته الرّخيم " أمن تذكّر جيران بذي سلم ......" نفس الرجل مؤدبنا ذلك كان يحدّثنا عن أمور شتى منها حرب فلسطين وعن بلده نفطة وحكايات التوارق وعن بوسعدية الذي هام باحثا عن ابنته التي سباها البيض ومضى يغني في حلقات السود ويرقص في حلقات السطنبالي فتلتقي حكايته تلك في زمن لاحق بحلم مارتن لوذر كينغ. ثمّ اتسعت دائرة الفضول الأدبي والقراءات لتطال في نهم دائم الأدب العالميّ.. كيف لا تعشق روحي الحكاية في كل هذا وينحفر فيها ذلك العشق بعد ارتحالها في عالم إميل زولا وفيكتور هيغو وغي دوموباسون وغوركي ودستيفسكي وزكريا تامر ويوسف إدريس وجورجي زيدان ونجيب محفوظ وعزين نسين..
في خاطري ما زلت أستعيد تلاوة مؤدبنا الشيخ السبتي رحمه الله " نحن نقصّ عليك أحسن القصص" وأستعيد صوت جارتنا العجوز وهي تطرّز بصوتها الخشن " يا سادة يا مادة يدلنا ويدلكم للخير والشهادة... الله .... الله والّي عنده ذنب يستغفر الله..ّ" تجاوزت مقدّمة الخرافة لأحطّ مركبة الحكاية على بوّابة الرّواية وقبلها القصّة القصيرة.
* يرى البعض أنّ القصّة القصيرة هي تدريب كتابي يسبق الرّواية وأنت بدأت بالقصّة القصيرة ثمّ كانت الرواية. هل هذا القول صحيح وهل يوجد جنس أدبيّ يعتبر تدريبا لجنس آخر؟
- لم أفكّر في بداياتي وأنا أكتب القصّة أنّني أتهيّأ لكتابة رواية أو أتمرّن على كتابة الرواية لأنّ التقنيات تختلف حتّى لو كان الجنسان يندرجان في خانة السّرد. كتبت الرواية لحاجة ماسّة لمساحة أكبر تحضن ما لا يبيحه التكثيف الضروري لمتن القصّة والتركيز على الحدث. فتراكم التجارب الحياتية والتأمل في ملابسات الواقع, والإثارة والمؤثّرات التي تخلفّها أزمات بكلّ أنواعها نعيش بلا مظلّة واقية تحت هطلها وضعتني كلّها على عتبة الرواية. ممارسة الكتابة في جنس معيّن لا يعني بالضرورة انتقال إلى جنس آخر هناك من ظلّ يكتب القصّة القصيرة ولم ينتقل إلى الرواية. زكريا ثامر مثلا ويوسف إدريس وهناك من عرف روائيا بلا مرور بكتابة القصّة.
في اعتقادي المسألة ليست تدربا على التدرج من جنس إلى آخر وإلاّ من أي جنس أدبي يقع التدرب على كتابة الشعر؟ إمّا أن يكون شاعرا من المنطلق أو لا يكون. التدرب يتم في حدود صقل الموهبة وآليات الكتابة. الإشكالية المطروحة الآن هي الكتابة المطلقة حيث تنتفي الحدود بين الأشكال أو الكتابة النصيّة التي تحدّث عنها Philippe Sollers .
* بماذا تطالب مسعودة بوبكر الكتابة الأدبية لحظة ممارستها؟
- أطالب نفسي بكثير من الأمور قبل أن أطالب الكتابة. ففي عمليّة المخاض عادة تكون الأرحام هي المطالبة بإنجاح عمليّة الولادة وإلاّ اختنق الجنين ومات. أقف دائما أمام مشروع نصّ جديد منذ الانطلاق في دوّامة التخييل والتهيؤ للدّخول في مغامرة قد تثمر وقد لا تثمر. قد أطلع بلؤلؤة براونينغ حيث يقول "هناك لحظتان في مغامرة الغوّاص.. واحدة يكون فيها متسوّلا وهو يستعدّ للغطس، وواحدة يكون فيها أميرا حيث يطفو حاملا لؤلؤاته". وقد أعود بخفّي حنين. في حضرة الكتابة أقف مثل متسوّلة ليس أشدّ من حاجتها وإلحاحها. يعاودني أمام كلّ نصّ جديد قلق الإبحار والغوص وتهيّب اللجّة والعمق الثري من يمّ الإبداع. ماذا أبغي من النصّ؟ أن يصل قلب القارئ مادام يطلع مباشرة من قلبي .أن ينتشلني من خوفي منه فليس أصعب من الكلام المنسكب في خطاب مكتوب وليس له من تأشيرة غير حسن سبكه ولا من جواز غير خفّة روحه وعمق معانيه وهي مغامرة الكاتب، يشقى بها ويسعد. أريد من الكتابة ألاّ تتلكّأ في نصرتي الكلمات لحظة ألج حدائقها السريّة. لأتملّى من زهور التّبر التي لا تظهر إلاّ مع اكتمال البدر! أريد أن أسكر من شجرة التّوت الخرافية... أريد أن أستدرّ رحيق قصب المعنى المتهادي على ضفاف مياهه الجوفيّة...! أرفض البقاء عند دفء السّطح مثل إوزّة وديعة تسبح هانئة البال في مياه البركة الرّاكدة.
* لعلّ هناك أساليب يجب أن يستخدمها كاتب القصّة أو الرواية ليحقّق عمله الابداعي النّجاح ومن ثمّ الاستيلاء على القارئ والظّفر به؟
- أؤمن أن الكاتب متى ضاجع الكلمات بهوس وحبّ, يطلع النصّ كرعشة الانتشاء وحشيّ البهاء سواء كتب القصّة أو الرواية أو القصيد. أن ينشدّ القارئ إلى نص ما فلا بدّ من اقتناع كاتبه به فضلا عن ضرورة توفّر عناصر جماليّة وموضوعيّة في الأسلوب والطّرح والطرافة. في اعتقادي يبقى أسلوب الكاتب هو المهمّ إلى جانب الصّدق الفنّي حتّى لا يشعر القارئ أنّه يلوك قطعة مطاط أو يجلس إلى جسد محنّط أو يشمّ زهرة اصطناعيّة. يقول جبران خليل جبران في هذا السياق:" من نقّب وبحث ثمّ كتب فهو ربع كاتب ومن رأى ووصف فهو نصف كاتب ومن شعر وأبلغ النّاس شعوره فهو الكاتب كلّه"
* بيئة الكاتب هي الخليّة الأولى التي توفّر الحدث الملائم وتمدّه به. ما مدى تأثير البيئة التونسيّة عليك ككاتبة؟ هل تستمدّين دائما مضامين إبداعاتك من هذه البيئة... أم تستوردين من بيئة أخرى؟
- قيل "الكاتب نتاج عصره". البيئة هي الجنات الوراثيّة بكلّ ما في ذلك من خصوصيّات.
رغم الاتفاق أنّ الكتابة تنهل من الينابيع الإنسانيّة عامّة وتتجاوز حدود الجغرافيا والانتماء والتّاريخ تظلّ الألوان والرّائحة الأصليّة هي المسيطرة على الرّوح المبدعة. في كتابه الشّهير le Pavillon d'or كان يوكيو ميشيما يابانيا حتّى النّخاع وعالميا خالدا بنبضه الإنساني وفلسفته وكذلك كان محمد شكري وهو يحكي المغرب وجورج أمادو بالنسبة للبرازيل في روايته "غابرييلا قرفة وقرنفل" ومثله نجيب محفوظ وحارات مصر, وبشير خريف في برق الليل مع حاضرة تونس الحفصيّة. وأودّ هنا أن أتوقّف قليلا عند الكاتبة نادين قوردمر الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة 1991 فهي من أمّ يهوديّة انقليزية ووالدها يهودي من ليتوانيا, ولدت قرب جوهانسبورغ في جنوب إفريقيا تقول إنّها رغم عرقها اليهودي لم تتلقّ تربية دينيّة ولم تنخرط في منظمات صهيونيّة ولكّنها تنتمي إلى جنوب إفريقيا, تأثّرت بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة للبيئة التي ترعرعت فيها ونشأت وتأثرّت بمعاناة السّود هناك وناهضت الميز العنصري.. إنّ هذا يتضّح في رواياتها وقصصها القصيرة. وغيرها كثير من الكتّاب العالميين الذين تنضح من كتاباتهم ألوان بيئتهم وروائحها وتداعيات خصوصياتها ومميّزاتها التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة.
يظهر في كتاباتي المكان التونسي المدينة العتيقة (رواية جمان وعنبر) التقاليد (المجموعة القصصية طعم الأناناس ورواية طرشقانة) المشهد الريفي (وداعا حمورابي) هذا على سبيل المثال. وكما ذكرت في بداية هذا الحوار تأثّرت بما كان يحيطني بداية من أجواء الكتّاب والقرية الهجينة بين الريف والمدينة وسكّانها ذلك الخليط العجيب من إيطاليين وفرنسيين وجزائريين ومغاربة. ثمّ انشددت إلى تاريخ تونس هذه الرقعة من الأرض التي عرفت رغم صغر مساحتها حضارة راقية مع قرطاجا ثمّ القيروان الإسلاميّة وكلّما تأمّلت صفحات التاريخ المتقلّب بشعبها ومعاناته في العهد الحفصي مثلا وذلك التجاذب بين الأسبان والأتراك ثمّ في عهد البايات الحسينيين وانتصاب الحماية وفصول النّضال اللاحقة, خامرتني شتّى الفكر التي تلهم بمواضيع شتّى لو يسمح العمر والظروف بانجاز بعضها لحققت سعادة قصوى.
غير أنّ هذا لا ينفي تأثّري كعنصر في مجموعة بشرية على أرض واحدة لا يمكن إلاّ أن يهتزّ لما يقع في شمال الكرة الأرضيّة أو جنوبها تنطبق على وعيه نظرية الشّواش.
* الترحال سمة بارة لعدد من كتاباتك الإبداعيّة هل هي طبيعة الشخصيّة التي ترسم فضاءاتها؟
- لو كنت امرأة صاحبة ثروة لبددتها في الأسفار. في داخلي سندباد موثوق اكتفى أن يسافر عبر الكتب وأخبار الدنيا بكل الطرق الناجعة والنّاقلة للمعلومة وقد بات ذلك متوفّرا عبر الوسائط الإعلاميّة الجديدة. الحياة بالطّول والعرض يمنحها السّفر والرّحلات. أضيق بالمكان الواحد وربّما مرّت العدوى إلى بعض الشّخوص في كتاباتي. مازلت أحلم بشخصيّة تشبه أبا الفتح الإسكندري وقد قيل عنه : إسكندرية داره، لو قرّ فيها قراره، لكنّ ليله بالجنوب وبالشمال نهاره.
الكتابة هي عالم فسيح تستلهم من الشّمس امتداد شعاعها على كلّ زوايا الأرض وفضاء الحكي يرسم حدوده خارج قانون الجاذبيّة والمنطق لذلك تكسر الكتابة الحدود لتحلّق بالخيال حيث شاء وتتّبع الرواية بين نقطتي البداية والنّهاية مسار الشخوص التي فعلا هي التي ترسم فضاءاتها.
* هل صحيح أنّ عالم المرأة لا يتم فتحه إلاّ بقلم المرأة ؟
- يظلّ ذلك إيمانا راسخا لديّ.... ثمّة خانات في النفس لا يملك مفاتيحها إلا أصحابها. قد يساعد التخييل في دنيا الإبداع بكسر حواجز الجنس فيرتدي الكاتب إهاب أنثى وكذلك العكس والأدب يزخر بالأمثلة لكن هناك وتر سريّ لا يحسن العزف عليه غير صاحبة الأغنية. لكنّ هذا لا يمنع شرعيّة تبنّي الأصوات. الفرق في مدى الخطوات الممتدّة نحو الحقيقة والصّدق الفنّي وعمق التجربة.
* المرأة متّهمة دائما بأنّها تبوح في إبداعها بأوجاعها الذّاتية.. هل أنت مع هذا الرّأي؟
- متّهمة من قبل من؟ الرّجل؟ ومتى سكت الرّجل عن ذلك؟ كيف نسلب من هذا أو ذلك صفته الإنسانيّة تلك؟ ولم نعتبر ذلك تهمة. إذا اعتبرنا ذلك كذلك فسنضع جلّ الأدب الرّاهن في قفص الاتّهام بالذّاتية.. إنّي أتّفق دائما مع مقولة إنّ الرّجل يكتب ذاتيّاته بالتقسيط والمرأة الكاتبة تصبّ همومها مرّة واحدة.. خاصّة في نصّها الأوّل. الواقع أنّنا جميعا ننطلق من ذواتنا في كلّ المواقف والقضايا الإنسانيّة التي نخوضها كتابة. الشرارة تنطلق قسرا من الذّات حتّى في محاولة فهم الآخر، سواء كان المنطلق أوجاعا أو تجربة عميقة أو قناعات وإيمانا خاصا أو عقدة نفسيّة, كلّ ذلك يحقّق الصّدق الفنّي المرجو. مازلنا للأسف نحتفظ بتقييمات بائدة في مسألة الكتابة عند المرأة ومنها هذا السّؤال.
* هل يكون هاجسك عند التفكير في كتابة رواية جديدة الموضوع البكر والجرأة في البوح والكشف أم يكون البناء هو مدار حيرتك؟
- أعيش في راهن اختلطت فيه المفاهيم وتشابكت القضايا كأنّي أمام أُكَرٍ عديدة من خيوط متشابكة أسعى من خلال النصّ الروائي أن أخلّص منها بعض الخيوط لأزرد نسيجي الخاص مع إيمان راسخ بأنّ التطرّق إلى الرّاهن يعني بالضرورة التوسّل بالصّدق لأنّ التحدّث عن جرأة وبوح وكشف يبقى مسألة نسبيّة. رأى بعضهم في روايتي طرشقانة جرأة وموضوعا بكرا في حين أنّ ذلك لا يعدّ من الجرأة في شيء في المجتمعات الغربيّة، أما عن الموضوع البكر فالهواجس الإنسانيّة قديمة قدم الأرض لكن ملابساتها هي التي تتغيّر ونحن بطرحها نلج مرحلة صراع مع هذه الملابسات في استماتة لتأخير أكثر ما يمكن عملية التأقلم أو الانصهار واستمرار في الرّفض لذلك في كل الطروحات الفنيّة يصبح الشكل الفني مهمّ وشخصيا أسعى للتحرّر من أسر الفكرة والموضوع على حساب الشّكل إلى حدّ, لقناعتي الرّاسخة بضرورة عدم استقالة الرواية من طرح الأسئلة الوجوديّة وإعادة طرحها. يرى بعضهم أنّ ذلك من العاديّ ولكني أرى من غير العادي أن ندير الظّهر لهذا ال"عادي" الذي يطفو في كلّ مرّة على السّطح ومن غير العادي أن تصبح غاية النصّ صناعة فنيّة على حساب الفكرة والموضوع وخبط عشواء في الإبهام بتعلّة الحداثة .. المسألة هي التوفيق بين الاثنين وهذه معادلة مهمّة جدّا تظلّ بغية الكاتب.
* ما مدى حضور الرّقيب في كتابات مسعودة بوبكر؟
- ما أعيه جيّدا هو أنّ الكتابة عالمي الخاص أتعرّى فيه وأعرّي ولا أتردّد في إلقاء الحجر في المياه الرّاكدة إيمانا منّي أنّ ذلك هو دور الكتابة الصّادقة, ألا يكفي أنّ المجتمع في بعض الأمور يتسامح مع التلميح دون التصريح لأزيد في التشديد على نفسي؟ إنّ الرّقابة الذّاتية التي يقيمها الكاتب على نفسه تجعل عمله مبتورا مفتقرا لتلك الغمرة من الجنون الجميل الذي يقوّض ترتيب الأشياء ويعطي للمحظور أو المسكوت عنه تأشيرة عبور إلى الذّائقة. أعتبر دائما أنّ أيّ فكرة يرى البعض أنّها جريئة هي عريكة الوعي لا بدّ أن تطلع إلى الشّمس وإلاّ تفسّخت في العتمة. وليس أبشع من أن يصبح صدر الكاتب مقبرة لنتف مجهضة.
* يقول جون بول سارتر: العمل يدوم مادامت القراءة وفيما عدا هذا لا وجود إلاّ لعلامات سود على الورق؟
- كذلك اللوحة الفنيّة بكلّ ألوانها وأشكالها فلا وجود لها إلاّ في العين التي تبصرها وتتملّى منها وإلاّ فهي عدم. أن نكتب يعني أن نحاور آخر.. أن نربك أن نستفزّ أن نمتع ربّما... تختلف أهداف الكتابة لكنّها تتفّق في استدعاء المتلقّي لتحقّق حضورها. صحيح أنّنا لا نحدّد هذا المتلقّي ولا نعرفه في الغالب لكنّه موجود في وعي الكاتب وإلاّ انتفت عمليّة الكتابة. كلّ أثر يرقب مقتفيه. وما الكتابة إلاّ أثر... إنّها حلقة تواصل بالضّرورة مادام قد أفصح الكاتب بالحرف ودوّن بالقلم على الورق. القراءة هي المكمّل للنصّ كي يحقّق وجوده في ذاكرة التلقّي.
* هل أنّ لغياب القارئ تأثير سلبي على الكتابة بصفة عامّة؟
- دعني أشير إلى الكتاب أوّلا... المقروئية بنسبتها الحاليّة المتردّية في الوطن العربي لها تأثير سلبي على الكتاب. أليس بالأمر المحزن أن تطبع رواية في خمسمائة نسخة في مطلع هذه السنة التي نضع في بلادنا على طاولة الحوار والاستشارة هموم الكتاب ومشاكل نشره وتوزيعه بتعلّة قلّة القرّاء؟ إنّ التفكير في التربية على القراءة بات أمرا ضروريا لصناعة قارئ في وقت تصنع فيه نجوم الغناء ونجوم كرة القدم. ما دمنا في راهن "مصنِّع " بكسر النّون فلنفكر بجدّية في صناعة القارئ.. ولنجعله تحدّيا من ضمن التحديات الرّاهنة وإلاّ فسينشأ أمام ضميرنا الغافي جيل مفرغ من المعرفة العميقة التي تتجذّر في عمق وعيه, نتصوّر أنّه يستقي معارفه من الوسائط المعرفية السّريعة هذا صحيح لكنّه في الواقع هو أيضا وسيط بين مصدر المعرفة وورقة الامتحان تعبر المعلومة عبر نظره ثمّ الحامل الإلكتروني ولا تغوص في عمقه... والنتيجة تبلّد وكسل وتمكّن الصّدأ من طاقته الدّفينة للبحث عن المعرفة وفراغ متّصل.
غياب القارئ إشكاليّة حسّاسة تنداح في نسيج المجتمع كبقعة زيت وضررها بعيد المدى.
هل لهذا الوضع تأثير على الكتابة ؟ الكتابة هي الوضع الصّحيح وغياب القارئ هو الخلل... والعلّة لا تنفي الوضع الصّحيح. هذا هو المفروض أن يكون.
عندما استضافتني مدرسة إعداديّة, ناقشني أحد التلاميذ حول نصّ كتبته وهو لم يولد بعد, اشتدّ إصراري على الكتابة أكثر من أيّ وقت مضى، فحتّى إن انتفى القارئ الآن, هناك قارئ قادم غدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.