يبدو أن الوقت قد حان لتجاوز حالة المراهقة السياسية التي تهيمن على أغلب مواقف وتصريحات النخب في تونس بعد الثورة ودون الدخول في الجدل حول موعد الانتخابات التي أسالت الكثير من الحبر، فانه من الضروري الآن ايقاف دوامة التخوين المتبادل والتراشق بالاتهامات بالتآمر والالتفاف على الثورة... الى غير ذلك من الالهاءات التي لا تفعل سوى تسميم الجو العام بالبلاد وتعطيل عملية البناء الديمقراطي المنشود, جميع المسارات اليوم تراوح مكانها، فيما تبدو مؤهلات الاستجابة أقل بكثير من ضخامة التحديات المصيرية التي تفرض نفسها بقوة على جميع الأطراف دون استثناء. المشكلة هنا هي أن هناك البعض ممن إما باغتتهم الثورة أو أنهم كانوا منزوين قبل 14 جانفي ربما بدافع الخوف في انتظار ما ستؤول إليه الأحداث، هؤلاء يحاولون اليوم استدراك أنفسهم بإعادة شحن رصيدهم النضالي بنضالات مفترضة من قبيل المساهمة في إسقاط حكومة أو إفشال مشروع مفترض، ويذهبون في مواقفهم الى أقصى حدود التطرف في عملية هي أشبه بالتعويض النفسي لذلك الاختلال الذي عاشوه في السابق، فتراهم يتبجحون بهذه «النضالات» في المجالس والمنتديات، وترتفع أصواتهم بمبرر وبدونه، وأنا بصدد معايشة هذا النمط البائس من الناس حتى على المستوى الجهوي والمحلي وضمن دائرة العلاقات اليومية مع بعض الأصدقاء غير أن المصيبة تتمثل في أن ثمن هذا «الشحن» هو مصير هذا الوطن الذي أصبح في الميزان، فاختلطت الأوراق وانقلب سلم الأولويات وانحرفت بالتالي إبرة البوصلة التي من المفترض أن توجه مسار الثورة في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به تونس, لا فرق هنا بين السياسي الذي يرفع اليوم مطالب سياسية واجتماعية بل وحتى دينية ومذهبية خارج دائرة الأولويات الملحة والعاجلة للبناء الديمقراطي، وبين ذلك المنحرف الذي يستولي على الطريق العام بإقامة محل لبيع الخضر والغلال في عملية استغلال رخيصة لحالة الارتخاء التي تمر بها مؤسسات الدولة وتحضرني الآن عبارة مؤثرة للحقوقي محمد الأزهر العكرمي الذي قال في إحدى الحوارات أن الذي يحاول الاستقواء على حساب ضعف الدولة إنما يقوم بعملية ابتزاز مهينة للوطن, بعض الأطراف استمرأت دور المعارضة لدرجة أصبحت معها غير قادرة على اللعب خارج ذلك الإطار مهما كانت الظروف والمتغيرات، ومع انهيار النظام كان لا بد لها من البحث عن أي شكل من أشكال السلطة لتقوم بمعارضته، حتى أنه يصح التساؤل بجدية هنا حول مدى قدرتها على القيام بدور السلطة في حال نجاحها في استلام مقاليد الحكم. الحقيقة الغائبة لدى هذه الأطراف هي أن أسلوب العمل الذي كان يفرضه واقع الاستبداد قبل الثورة لم يعد ذا معنى في الظرف الحالي، فالمشهد هنا لا يمكن توصيفه بالصورة العادية، فلا الحكومة المؤقتة يمكن اعتبارها سلطة سياسية قادرة وبالإمكان محاسبتها وفق القواعد العادية للمحاسبة السياسية، ولا القوى الأخرى- سواء داخل الهيئة العليا أو خارجها- يمكن اعتبارها معارضة, هنا لا بد من الإقرار بحقيقة أن الشق السياسي للنظام قد سقط عمليا في اللحظة التي غادر فيها الرئيس الهارب البلاد، وحتى بعض الوجوه التي بقيت تناور في البحث لها عن موقع ضمن العملية السياسية الانتقالية، لم يكن ذلك ليتعدى حدود ما يمكن تسميته بالممانعة التي لا ترقى إلى أن تكون استمرارا فاعلا للنظام السابق, بقي الشق الأمني هو الذي يطرح اليوم الإشكال الأكبر، إذ لا اختلاف اليوم حول تضخم الأجهزة الأمنية التي أرساها النظام السابق، لا من حيث العدد وإنما من حيث تغلغلها في كل مفاصل الدولة تقريبا وعدم اقتصارها على الدور الأمني التقني البحت وأنا على يقين ثابت بأن التحدي الرئيسي (وليس الوحيد طبعا) الذي يواجه الثورة التونسية اليوم يتمثل في الأجهزة الأمنية التي لم تطلها بعد يد الإصلاح. بالتأكيد فإن الغالبية العظمى من منتسبي هذه الأجهزة هم من المخلصين و الشرفاء الذين لم تتلوث أيديهم بجرائم النظام، إلا أنه لا تزال توجد بها بعض الدوائر و مراكز القوى التي لا تكتفي بلعب الأدوار الأمنية المشبوهة بل تتعدى ذلك إلى باقي المجالات السياسية والاقتصادية بل وحتى الإعلامية، تلتقي في ذلك مع بعض فلول الحزب الحاكم المنحل لتشكل تحالفا غير معلن لا يزال البعض يتغاضى عنه ويشغل نفسه ويحاول إشغال الرأي العام بالصراع الساذج مع الحكومة المؤقتة التي- دون السقوط في الدفاع عنها- يجب الإقرار بأنها الضحية الأولى لبعض الدوائر في الأجهزة الأمنية، وأن الأحداث السابقة أثبتت أن لا سلطة لهذه الحكومة ولا لوزير الداخلية على معظم هذه الأجهزة، التي ليس من السهل عليها أن تقبل بين عشية وضحاها بالانتقال الجذري من مهمة حماية النظام الى الاضطلاع بمهمة حماية الدولة والشعب, هذا ما يفرض الإسراع بجعل مسألة تطهير الجهاز الأمني وإصلاحه في سلم أولويات المرحلة الراهنة لأن الأمر يتطلب حتما قدرا هائلا من المثابرة وطول النفس، و إذا نجحنا في تكريس هذا الانتقال في عقيدة الأجهزة الأمنية فإننا نكون قد قطعنا شوطا هاما في ضمان حماية عملية التحول الديمقراطي السليم، ونكون كذلك قد حيدنا قسما لا بأس به من قوة الحزب الحاكم السابق التي لا يزال يعتمد عليها في السعي لإفشال المسار الثوري بالبلاد. و في خضم كل هذا بدأت ترتفع الأصوات التي تحاول سرقة هذه الثورة من فاعليها الحقيقيين، والتي ينبغي الاعتراف بأن فئة الشباب هي التي كانت في طليعة صانعيها وقد أتيح لي أن أشارك في أغلب التحركات الكبرى التي سبقت سقوط النظام وشاهدت بأم عيني كيف أن الشباب هم الذين كانوا أكثر جرأة و اندفاعا من باقي الفئات، وكيف أن هذا الاندفاع هو الذي أتاح لتلك التحركات أن تحقق النجاح الذي قاد إلى هز أركان النظام أكثر من ذلك، يمكن القول دون تجن أنه لو بقى الأمر بيد قوى المعارضة التقليدية لما قدر لهذه الثورة أن تحصل، أو على الأقل لما كان لها أن تكون بذلك الشكل الحضاري المدني و اللاعنفي فلنتخل شيئا ما عن نرجسيتنا ولنعترف لشبابنا ببراءة الاختراع هذه , أن نقول أن هذه الثورة أتت إنصافا لنضالات الأجيال السابقة فذلك منطقي إلى ابعد الحدود ،أما أن ندعي بأن تلك النضالات هي التي صنعتها فذلك هو الغرور بعينه و لعله من الحقائق التي لابد من الإقرار بها أن هذه الثورة أتت خارج السياق النضالي التقليدي للمعارضة التونسية سواء من حيث قراءتها للواقع أو من حيث الأساليب التي كانت تعتمدها في التعاطي مع هذا الواقع. حتما الحديث عن التراكم يغري ومن شأنه أن يرضي جانبا من كبرياء قسم هام من النخبة، لكنه لا يعبر بالضرورة عن واقع الحال. * طالب سابق بكلية الحقوق