فتحي ليسير يكاد الإجماع ينعقد اليوم على أن القطيعة بين النخب وسائر عموم الشعب لم تبلغ في تونس شأنا من الاستحكام عظيما مثلما هي عليه اليوم. و لنقلها صريحة فصيحة منذ البداية: لقد استكثرت النخب و بخاصة السياسية و الثقافية منها، على الشعب إنجازه الرائع و ساءها أن "يأتي التاريخ من القاع" هذه المرّة وفق عبارة "فرانكو فيراروتي". تاريخ سطّر صفحاته شباب تونس ممّن لا يذكر اسمهم و لا يعرف رسمهم. شباب طوّع الأداة المعلوماتية باقتدار مذهل لطرد الدكتاتور و تحقيق الحرية, شباب حوّل الزمن الكئيب الى زمن جميل، و الخمول الى بركان، و العجز الى إعجاز بل إننا نكاد نجزم أن قطاعات عريضة من النخب قد ساورها الشعور بالإهانة و الخزي بعد أن أخذتها الثورة الشبابية على حين غرّة. و من المعروف أن المثقف العربي بصفة عامة لا يملّ عن تكرار لازمة رتيبة مؤداها إنطواء كتاباته عن شحنات من التنبؤ و الاستباق و هو ما سمّاه عبد الإله بلقيزيز بأسطورة الدور الرسولي. داورت النخبة و ناورت خلال الاسابيع الاولى التي تلت الثورة جاعلة وِكْدَهَا ركوب الأحداث على أمل سرقة المنجز ومصادرته و لكن الشعب «الذي أراد» كان متيقظا و آية ذلك ما باء به بعض القادة السياسيين و من إليهم من خيبات خلال تحوّلهم الى بعض النواحي أو خلال إتخاذهم سمت الوعاظ في أثناء القصبة 1 و القصبة 2 أو في بعض المنتديات و من على بعض المنابر. و لأنّ النخبة في مختلف أطيافها، عجزت عن استشراف نذر الثورة و توقّع اندلاعها و لم تكن ذات ثقل وازن فيها فإنها لم تعد تطيق بمرور الوقت- سماع استخلاصات من قبيل: «لقد فاجأت الثورة الجميع و أنه سجّل لشباب تونس براءة الاختراع في المبادرة الى الثورة على النظم الاستبدادية العربية، و أن الثورة لم تستنهضها قيادات سياسية أو حزبية معينة، و لم تحركها ايديولوجيات محددة و أن لا أحد، أو جهة معينة، تستطيع أن تنسب الى نفسها هذا الانجاز التاريخي كليا أو جزئيا..». و حتى حين تضطر عناصر من النخبة السياسية الى الإقرار بذلك فإنها تشهر البعض من تلك البراهين، في الأعم الأغلب، في وجه منافس سياسي أسكرته استطلاعات الرأي فراح يفرد عضلاته اللغوية في مناظرة تلفزيونية أو خلال وقائع اجتماع تعبوي صاخب. و لئن لم ينبر الى حدّ الآن واحد من رموز النخبة السياسية أو الثقافية للرد على ما شاب مواقف الفئات المذكورة من غموض و تردد و ارتباك، و بالتالي تفنيد ما اعتبره البعض مجارح جائرة و مطاعن بائرة، فإنّ خيبة الأمل التي أصبح يعبّر عنها سواد الناس، من أداة الطبقة السياسية و من يرفدها من المثقفين، كانت عميقة بقدر ما هي ممضّة ناهيك بانخراط الأحزاب المعروف منها و المغمور في حمّى التنافس و انصرافها الى عقد التحالفات و تأليف الجبهات بحيث اغتدى المشهد مضطربا مشوشا ملبدا بعناصر من التأزم العميق. و لقد جاءت الأحداث العصيبة التي تمر بها البلاد، و آخرها أحداث المتلوي الأليمة لتبرهن، بكل وضوح و قوة، على أن لا همّ للزعامات السياسية و لا مشغل إلا التموضع في الخريطة السياسية الجديدة و التأهب للإنقضاض على المواقع و ليذهب الوطن الى الجحيم. و في معمعان هذه الفوضى و ما أصبح يجيش في صدور الناس من آلام و احباطات كاسفة يبدو لنا أن رهطا من المنتسبين الى النخبة المثقفة قد اغتنموا الفرصة ليستأنفوا النظر في مقدمات الثورة تحت عنوان: حصيلة أولية، محاولين ما وسعهم ذلك- تنسيب فكرة فجائيتها و لقد أمكننا أن نقف على البعض من هذه القراءات خلال متابعتنا لما يقال في بعض البلاتوهات التلفزية أو البرامج الإذاعية التي راجت سوقها هذه الأيام، و كذا ما يكتب على أعمدة بعض الصحف. فهذا باحث أكاديمي يؤكد بلا مواربة أنه تنبّأ « بالزلزال التونسي» (كذا) في كتاب له صدر منذ (احبسوا أنفاسكم) ثلاث سنوات. و هذا مبدع يصرح و هو يضغط على مخارج الحروف أن أعماله هجست بالثورة. و أن العيب كل العيب إنما يمكن في المتلقين الذين لا يجيدون القراءة بين السطور و حين يجهد المرء نفسه و يعود الى ذلك الكتاب و هاتيك الأعمال فإنه لا يجد أثرا لا لإرهاصات الثورة و لا لنذرها و إذا هو بإزاء كتابات عادية و إبداعات باهتة مرقطة بعبارات مصكوكة لا رائحة فيها ولا طعم. و لقد تفشّت هذه الظاهرة في مصر الى درجة دفعت بالكاتب ياسر عبد الحافظ الى أن يتوجه الى هؤلاء «المتنبئين» بالقول: « معجزة ! لقد تنبأت أعمالكم بالثورة، و حددتم موعدها أما الشعب الذي قام بالثورة فهو وحده الذي فوجئ بها.» و ثمة ظاهرة أخرى طفت على المشهد الإعلامي لما بعد 14 جانفي، في ظل الخواء الذي تعرفه المؤسسات الإعلامية، وعصارتها ذلك الحضور المكثف لقسم ضئيل من النخبة في وسائل الاعلام المرئية و المسموعة التونسية و النفطية بحيث تشكلت عندنا بالتدريج- فئة يمكن أن نسميها بمشتركي (les abonnés ) السمعي البصري الذين يزاولون الترحال من بلاتوه الى بلاتوه، و من استوديو الى استوديو، ينثرون العظات «و الينبغيات» هنا و هناك مغتنمين محدودية مقدمي الحصص و منشطيها و هزال تكوينهم. هكذا أصبحنا أمام فيض من غثيث التحاليل و الرؤى و الاستنتاجات خطابات وثوقيّة لا أثر فيها للغة الاحتمال و تقاليد التحوّط و الحذر, بديهيات تجتر اجترارا فتصيب المشاهد أو السامع بالقرف والحاصل من كل هذا أننا عادة ما نكون في الغالب أمام مناظرات بائسة لا يمكن إلا أن تخدم الرداءة و تجعلها تطلق أجنحتها في الفضاء الإعلامي. و الله يشهد أن تونس زاخرة بكفاءات عالية و نخب ممتازة و لكن عيبها أنها انقطعت للبحث و العمل في طقوسه المتوحدة بالعزلة و الصمت و التأمل بحيث تركت المجال فسيحا لرهط من المثقفين ممّن استبد بهم هوس دعوي مرضي ليعيثوا في الميدان كما يروق لهم. و لا يسعنا هنا إلا أن ننصح هؤلاء الأخيرين بقراءة كتاب عبد الإله بلقيزيز الموسوم: نهاية الداعية، الممكن و الممتنع في أدوار المثقفين قراءة متأنية ودودا و تدبّر معانيه و على أمل أن يطلّع البعض منهم على هذا الكتاب، ها أننا نجتزئ لهم منه هذه الفقرة: "آن للداعية أن يصمت. و أن ينسحب من المشهد بهدوء كي يفسح فرصة للمثقف الباحث كي يزود ثقافته بمساهمة هي في عوز إليها. آن له أن يحترم دوره و ألاّ يتعدى حدود المعرفة فلا يظلم نفسه. لم تعد المرحلة تتحمّله أو تتحمّل ثرثرته الببغاوية و مهاتراته الكلامية. فالدعاة أدعياء بلا زيادة و لا نقصان». واللبيب بالإشارة يفهم...