من جمع مالا وعدده وحسب أن ماله أخلده، ومن أحب المال حبا جما،ومن امتصّ دماء الشعب ولا يدري أنه سيسقط كالعلقة المنتفخة، لم يعرف تونس ولم يطلع على تاريخها فهذا البلد كثيرا ما نهبت خيراته وهذه الأرض كثيرا ما سلبت ثرواتها، لكنها بقيت على الدوام حبلى معطاء ولو التفتنا إلى الوراء قليلا لوجدنا «ابن عياد» مثلا يسرق خزينة الدولة ويهرب إلى فرنسا، فيتبعه «خير الدين» بتكليف من الباي كي يقاضيه ويسترجع ما نهب، لكنه فشل في المهمة التي ذهب من أجلها وأفلح في مهمة أخرى، فعوض أن يسترجع المال عاد إلينا بكنز لا يفنى ولا يضاهيه مال ،فلم يكتف خير الدين وهو في باريس مدينة الأنوار بمتابعة القضية بل خصص من وقته الكثير للقراءة والاطلاع والتأمل فعاد إلينا بفكر مستنير،متفتح، وبثقافة حداثية راقية كانت أساس مشروعه الإصلاحي العظيم الذي ضمنه كتابه « أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» نظرا، وحققه في بناء مؤسسات الدولة الحديثة وتطوير التعليم تطبيقا،نعم خسرنا المال لكن كسبنا الثقافة وشتان بين هذه الخسارة وهذا الكسب لأن في رقي الثقافة رقي البلاد والعباد وفي فسادها فسادهم ، وما الفساد الذي غرقنا فيه ونخر كياننا إلا نتيجة لفساد الثقافة ولمّا وقعت الواقعة وحدثت الثورة، تعرى المستور، وخدعنا في ما كنا نعتقد. كنا نعتقد أننا أصبحنا أمة واحدة كما قال «بورقيبة» بعد أن وجدنا ذرات من البشر، وإذا بنا نجد أنفسنا ما زلنا شعوبا وقبائل، عصبيات جهوية وصلت أحيانا إلى حد الحقد والعداء، و عروشية مقيتة رجعت بنا إلى «أيام العرب « فاكتشفنا أننا بعد ستين سنة من الاستقلال مازلنا نعيش في عصر غير هذا العصر،وأن الوحدة الوطنية أكذوبة.. أليس هذا من فساد الثقافة؟ كنا نعتقد أننا نعيش في دولة القانون والمؤسسات، وإذا بنا نجد أنفسنا خارجين عن القانون، متمردين على المؤسسات وما رفعنا من شعارات في الأيام الأولى للثورة لم تكن إلا بالونات فارغة سرعان ما تفرقعت في الهواء وتبخرت.. أليس هذا من فساد الثقافة؟ كنا نعتقد أننا منذ الاستقلال ما فتئنا نعمل على ترسيخ قيم انسانية كونية، كالحرية والديمقراطية والعدالة واحترام الآخر والتضامن والتفاني في خدمة المجموعة والتضحية في سبيل الوطن وغيرها،ولكننا في الحقيقة كنا نكرس قواعد أخرى للعيش فغابت الحرية وسكننا خوف رهيب،واستتبت الدكتاتورية باسم الأمن ومالت العدالة،وانقلبت المفاهيم فالرشوة مقبولة لأنها مجرد (قهوة) والسرقة مشروعة لأنها «تدبير الرأس» وتدبير الرأس ضرب من الذكاء..أليس هذا من فساد الثقافة؟ كنا نعتقد أن لنا نخبة نيرة من المثقفين والمفكرين ومن أساتذة الجامعات يساندون المدرسة وما تدعو إليه من قيم نبيلة، ويقتدي بهم المجتمع وإذا بنا نجد جلهم يتهافتون على خدمة السلطان ويتقربون إليه بمقالاتهم ومحاضراتهم وكتبهم ووشاياتهم طمعا في جاه مزيف أو سلطة زائلة أو مال وسخ... أليس هذا من فساد الثقافة؟ كنا نظن أن لنا مبدعين و فنانين قادرين على تهذيب الذوق وغرس قيم نبيلة وإذا بنا نكتشف أن جلهم كان يكرس الرداءة ويلوث اللغة فلا نستغرب أن هذه الثورة التي أبهرت العالم لم تحرك شعور هؤلاء فلم يظهر أي إبداع يرقى إلى ما كنا ننتظر ونحمد الله على أن ما ظهر بعد الثورة مات في المهد أو هو يحتضر الآن، كتلك الأغاني البليدة التي أساءت إلى الثورة،و من حسن حظنا أنها أذيعت مرة أو اثنتين فقط، فلم يجد المنشطون في الإذاعات ما ينقذهم مما هم فيه سوى المطرب محمد عبد الوهاب وأغنيته ( حرية) التي تبث يوميا أكثر من مرة وأحيانا وأغنية( الأرض تتكلم عربي ) للسيد مكاوي، رحم الله المطربين وأبقى على أغانيهما الخالدة...أليس هذا الإنتاج الرديء إثر الثورة وقبلها هو من فساد الثقافة؟ من المسؤول عن فساد الثقافة؟ من يحاسب على هذا الفساد الخطير الذي لا يصلح باسترجاع الأموال المنهوبة أو بالقروض والهبات، فإصلاح ما فسد من الفكر والذوق والسلوك يتطلب عقودا من الزمن ويتطلب جهدا ومعاناة بل يتطلب ثورة ثقافية أقوى وأعنف من الثورة التي نعيشها، لأن الإبقاء على ثقافة فاسدة هو بقاء لمجتمع فاسد. *متفقد عام للتربية