تونس الصباح: انتهت المداولات البرلمانية الخاصة بميزانية الدولة للسنة القادمة بعد أن صادق عليها مجلس النواب قبل يومين، غير أنها تركت جملة من الملاحظات التي توقف عندها عدد من المراقبين والبرلمانيين أيضا.. فعلى الرغم من أن ميزانية الحكومة للعام الجديد، تأتي في ظرفية دقيقة، حيث تتهيأ البلاد لبدء العمل بمنطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، وفقا لموجبات اتفاقية الشراكة التي وقعها الطرفان منذ العام 1995، مع ما يعني ذلك من تطورات لافتة ستمس بنية الاقتصاد الوطني ومجالات حركيته وأفقه، وإلى جانب صعوبات المرحلة الاقتصادية الدولية التي تتميز بارتفاع كبير ومتصاعد في أسعار البترول وتداعياتها على ميزانية الدولة ذاتها، وبالتالي على أسعار المحروقات وعديد المواد الاستهلاكية الأخرى في البلاد، على الرغم من كل ذلك، فإن مداولات هذا العام، يمكن وصفها ب "الباهتة"، بل إن بعض النواب في المعارضة كما في الحزب الحاكم، لم يترددوا في وصفها لنا ب «الباردة».. استثناءات.. فباستثناء بعض المداخلات التي شهدتها الجلسات الخاصة بمناقشة بيان الحكومة، وبخاصة منها مداخلات النواب، إسماعيل بولحية وأحمد الإينوبلي وثامر إدريس، والتي عكست مستوى لافتا من النقاش والمسؤولية البرلمانية والسياسية، فإن ما تمخض عن الجلسات البرلمانية التي امتدت طوال تسع وعشرين ساعة كاملة، لم يعكس بالقدر الكافي مشاغل المواطنين وقضايا البلاد الرئيسية، بل لم يلحظ المرء شعورا من قبل النواب بدقة المرحلة وحساسيتها، وهو شعور يفترض أن ينعكس بالضرورة على المناقشات وعلى مضمون المداخلات.. وإذا ما شاء المرء بعض الدقة، فإن ما يناهز الخمسمائة سؤال (493 تحديدا مثلما ورد على لسان رئيس المجلس السيد فؤاد المبزع) التي وجهها نواب البرلمان للحكومة بمختلف وزاراتها ومؤسساتها الدستورية، لا تشير إلى وجود حالة نوعية في التعاطي مع الشأن الحكومي، ولا يعني البتة أنها (التساؤلات) طالت المفاصل الأساسية لقضايا البلاد والتحديات التي تواجهها.. ويمكن تبويب هذه التساؤلات وفق النقاط التالية : ثمة تساؤلات قطاعية تعوّد عليها كل المتتبعين للمداولات البرلمانية، وهي تتكرر كل عام، إلى الحدّ الذي يجعل المرء يعرف مسبقا فحوى مداخلة هذا النائب أو ذاك، والإطار العام الذي يتحكم فيها والأفق الذي تمضي باتجاهه.. ورغم أهمية الجانب القطاعي في النقاش حول الميزانية، إلا أن مستوى التساؤلات والحق يقال لا يرتقي في أحيان كثيرة، إلى الأهمية التي تحتلها بعض القطاعات ضمن النسيج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.. وهناك تساؤلات ذات «صبغة خاصة»، أي إنها تحيل على بعض المصالح والأغراض الخاصة، وبالتالي فهي لا تناقش القطاع من حيث مرتكزاته والسياسات التي تتحكم فيه، أو من خلال التوجهات التي تم رسمها له، بل هي تتناول الزاوية التي تهم مجموعات اقتصادية محددة أو مصالح بعض المؤسسات المالية أو الفلاحية أو الصناعية في هذه الجهة أو تلك، في وقت يدرك كل المتتبعين للقطاعات الاقتصادية بوجه خاص، تراكم الإشكاليات في هذه القطاعات، وحاجة الحكومة والبلاد بصورة عامة، إلى مقاربات جديدة ومقترحات لتطوير بعض الأوضاع، بل إن التساؤلات التي ينتظرها الرأي العام التونسي، من نواب الشعب كما يطلق على البرلمانيين عادة، تكاد لا تجد لها أثرا في المداولات، إلا ما كان من باب «تسجيل موقف» يبدو في غالب الأحيان، متعجلا وغير دقيق.. لكن الغريب بصدد بعض المداخلات، أن أصحابها نأوا بأنفسهم عن النقاش السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي للميزانية، واختصوا في بعض الملاحظات النحوية والصرفية، فهذه ألف مقصورة وليست ممدودة، وهذا مفعول به تحول إلى فاعل بقدرة قادر، وهذا تركيب في غير محله... وهلم جرا من هذه الملاحظات التي لا ندري إن كانت جزءا من النقاش البرلماني وهموم الرأي العام التونسي والحكومة، أم هي من باب «الترويح» عن أنفس النواب جراء ماراطون الميزانية.. ومن الصعب على المرء، أن يقتنع بأن هذه الملاحظات، تصب في اتجاه المحافظة على اللغة العربية ونقاوتها، أو هي نوع من الدفاع الإيديولوجي ضد بعض الأطراف التي تحاول تخريبها، كما يصور بعض النواب.. ولا بد من القول في ذات السياق، أن بعض تساؤلات النواب، كانت «خارج الموضوع» في بعض الأحيان، إما بسبب عدم إلمامها بالموضوع الذي تثيره، أو بموجب السؤال الذي قد لا يكون طرحه دقيقا وصائبا.. وهو ما يفسر إطالة بعض الوزراء لردودهم، حيث اضطروا لتناول بعض المسائل الفنية أحيانا، لتصحيح بعض المفاهيم أو المعطيات للنواب المستفهمين.. وفي الواقع، لم يلحظ المرء طيلة نحو أسبوعين من المداولات البرلمانية، نقاشا يرتقي إلى المستوى الذي نشاهده في بعض البرلمانات العربية والأوروبية، في الوقت الذي يسارع البعض إلى عقد مقارنة بيننا وبين تلك الدول، لكن عجلة هذه المقارنة تتوقف عندما يصل الأمر إلى البرلمان، حيث يلاحظ المرء الفارق الكبير في الأداء البرلماني بيننا وبينهم.. منهجية النقاش البرلماني على صعيد آخر، تبدو منهجية المداولات مثيرة لبعض التساؤلات، خصوصا لجهة اختزالها في أيام قليلة، بعد أن كانت تجري في متسع من الوقت، الأمر الذي جعل النقاش البرلماني، يسير بوتيرة شديدة السرعة، وبنوع من التراكم في الملفات، أضرّ والحق يقال بمستوى النقاش وبالهامش الزمني المخصص للنواب.. ولا نعتقد أن أسلوب «ضم» بعض الوزارات لبعضها، من شأنه أن ييسر النقاش والمداولات، على الرغم مما يمكن أن يقال بشأن التعامل مع بعض الوزارات بطريقة «الكتلة القطاعية»، نظرا لتشابه بعض القطاعات وبالتالي اختصاصات بعض الوزارات.. وتبدو إدارة مجلس النواب، مدعوة إلى مراجعة منهجية النقاش البرلماني، عسى أن تعيد إلى المداولات، البعض من حركيتها ومضمونها الذي يزداد تراجعا عاما بعد آخر.. ملاحظات أخرى والملاحظ من جهة أخرى، أن بعض التساؤلات التي يطرحها النواب، ليست من النوع الذي يطرح للنقاش، سياسات الحكومة واستراتيجياتها وخياراتها والأرضية التي وضعتها للميزانية، وهو من أبرز وظائف البرلمان، إنما هي أسئلة معرفية صرفة، بمعنى أنها تهدف إلى تقديم أجوبة «فنية». لكن الذي يثير الانتباه حقا، هو صرف المجلس النيابي لأكثر من نصف التوقيت المخصص للمداولات، للتنويه والمديح وتوجيه التحيات لأعضاء الوزارات والحكومة، ولتقديم التشكرات للوزير المعني، على الجهود التي يقدمها للقطاع، فيما أن ذلك من مهام الوزير ووظيفته التي اختير من أجلها.. إن النقاش البرلماني، شأن سياسي بالدرجة الأولى، وليس نقاشا فنيا أو هو من باب تسجيل الحضور، ناهيك أن بعض النواب يحتفظون بتدخلاتهم فلا تكاد تسمع لهم همسا في المجلس، إما لموقف منهم على مستوى المداولات، أو من الحرص على توفير أسباب المحافظة على موقعهم في البرلمان خلال الدورة القادمة، وفقا لبعض الحسابات التي قد لا تبدو صحيحة بالضرورة..