إنّ حرية الفكر حق لا اختلاف فيه، ذلك أنّه بغير الفكر لن يكون الإنسان إنسانا. هذه حقيقة بديهية، عرفها النّاس منذ أنشؤوا حضاراتهم الأولى، ولذلك حدّد قدماء الفلاسفة الإنسان بأنّه «حيوان ناطق» والناطقية مصطلح يعني شيئين هما: الفكر، واللّغة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكّر، ويعبّر عن الفكر بالكلام، ولا يشاركه في هذه الخاصّية أيّ موجود على الأرض. ومن هذا المنطلق ذهب بعض الفلاسفة إلى أنّ الفكر ليس ميزة للإنسان فحسب وإنّما هو دليل على وجوده، فلولا الفكر لكان الإنسان في حكم المعدوم، وصاحب هذه النّظريّة هو الفيلسوف الفرنسي ديكارت حيث يقول: «أنا أفكّر، فأنا إذن موجود». ولا يمكن للفكر أن يكون بغير حرية، فمن سُلب الحرية سُلب الفكر، ومن سُلب الفكر سُلب الوجود، فكانت هذه الأسس الثلاثة مقوّمات للإنسان، مترابطة، متكافئة لا يمكن الإخلال بجزء منها، وإلاّ أصبح الإنسان حيوانا بيولوجيا لا يختلف عن غيره من بقية الحيوانات الأخرى التي يشترك معها في حياتها المتدنّية من غذاء، ونموّ، وتناسل. ويبدو أنّ القرآن الكريم يشير إلى ما تميّز به الإنسان عن الموجودات الحية الأخرى، من أنّه كائن عاقل، متكلّم، مفكّر، حين يقول تعالى: «ولقد كرّمْنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر، ورزقناهم من الطيّبات، وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تفضيلا» (سورة الإسراء، الآية 70). ولكنّ الكفر ليس فكرا، وإنّما هو موقف عقائدي للكافر، ينبغي ألاّ يتجاوز شخصه، فهو حرّ في أن يكفر على حدّ قوله تعالى: «من شاء فليؤمنْ، ومن شاء فليكفرْ» ولكنّه ليس حرّا في أن يعتدي على غيره بكفره، فكثير من الملاحدة، والزنادقة يعرضون كفرهم وزندقتهم على أنّها فكر، وعلى أنّها إبداع معرفيّ أو ثقافي. وعلى أنّهم ينبغي أن يعبّروا عن ذلك بحجّة حريّة الفكر، وهذه مغالطة، فالفكر لا ينفصل عن الحريّة، والفكر ليس فيه اعتداء على النّاس في مُعْتقداتهم، أمّا الكفر المُتلبّس خداعا بالفكر فإنّه ليس من الفكر في شيء، ولا حق للكافر في أن ينالَ من إيمان النّاس ومُقدَّساتهم، ولا يمكن أن تكون الحرّية قرينة لعمل هؤلاء، لأنّ الحرّية لا تنفصل عن المسؤوليّة، وهي محدودة بحق الغير، إذ لا يمكن إطلاقا إيذاء الغير باسم الحرّية. ولنقلْ أخيرا لمن يتطاولون على الإسلام والمسلمين زاعمين أنّهم يمارسون حرّية الفكر، أنّهم يخلطون بين الفكر والكفر، ويغالطون النّاس. فالفكر مبدأ إنسانيّ، أمّا الكفر فقضيّة شخصيّة لا تتجاوز صاحبها، ولا يجوز اتخاذُها وسيلة للعدوان والتحدّي، ولذلك كانت القوانين بالمرصاد لمن ادّعى باطلا أنّه يمارس حرية الفكر، وهو في الحقيقة يمارس العدوان على غيره بالكفر. * أستاذ جامعي سابق