يواصل الدكتور الطاهر لبيب عرض أسئلة الثورة ليتوقف هذا الأسبوع عند سؤالي المعنى والفاعل مع التذكير بأن هذه المقالات تنشر بالتزامن مع صحيفة "السفير" اللبنانية. سؤال المعنى الثورة هي أيضاً، ثورة معنى: ثورة على المعنى الذي تبنيه السلطة وتسلّطه على الناس. وهي، في هذا، لها حيلٌ وآليات كثيرة: أولها تحطيم ما لا تتحمّله أو تقبله من دلالات الظواهر والأشياء، سواء أقامتها المعرفة أم جاء بها الحسّ المشترك. هكذا، مثلاً، تفقد «ديمقراطية» السلطة العربيّة كلّ مرجعيّةٍ لها، في الفكر والممارسة، لكي لا تكون غير ما يرى فيها «مانحُها». وماذا يرى فيها قامع فاسد، غير شعارٍ مناسب لتغطية قمعه وفساده؟ وإذا كان لمفهوم المجتمع المدني، في الفكر والممارسة، مسارُ قرون فهو، عنده «نادٍ»، له «أعضاؤه» و»أطيافه» الممتثلون، وغيرهم «خارجون» عنه. أما الشعب والمواطن، في «أيها الشعب» و»أيها المواطنون» فكيف للمرء أن يحدّد معناهما، وهما يخرجان من أفواه تملؤها الجثث؟ أمثلة المعاني المهشّمة لا تحصى. تستنزف السلطة ما تتلقاه من معنى وتضّخم ما تصنعه وتصدّره منه: يمكنها، مثلاً، أن تجعل من تدشين ملعب غولف موضوعَ خطاب عن «التنمية الشاملة والمستدامة»، أو أن تنشر في البلاد اللون البنفسجي، كما حدث في تونس، ليصبح هذا اللون لونها ولون علمٍ منصوب إلى جانب العلم الوطني (الشاعر الكوبي رينالدو أريناس رأى أن الدكتاتورية لا تتحمّل الجمال لأنها قبيحة ولأن الجمال يخرج عن سلطتها). أكثر من ذلك: يمكنها أن تنشر دالاً بلا مدلول، أن تشغل الناس بما تعلن عن «واقع» لا وجود له، وأن تعتبر من أراد التأكد من علاقة الداّلِ بمدلوله «مصطاداً في الماء العكر» أو ممّن «في قلوبهم مرض». لا يهمّ إنْ بقي المعنى معلّقاً (إيهاماً بعمقه، لكي لا ينفضح)، أو إن تسيّب، عن قصد، معوّلاً على اجتهاد الناس في سبر «غوره»، وبافتراض أن المسؤول، عندهم، لا يَلغو. تستغل السلطة ثقافة اللامعنى السائدة: ثقافة لا تقوم على إنتاج المعنى وإنما على استنزافه وتكراره وتسييبه، في مجتمع لا تكاد تكون له لغة واحدة متماسكة طبعا، يجد اللاّمعنى معناه في التوظيف السياسي، وإجمالاً في انتشار اللادلالة، كما وضّح ذلك كاسْتور ياديس، بخصوص المجتمع الحديث، كثير مما قالت «الأبواق» سهلَ قولُه لفقدان معناه: ما كان الجهد فيه مطلوبا كان للإقناع بمعنى لا معناه. يظهر بؤس هذا، مثلاً، في رد مسؤول حكومي على سؤال مواطن. قد تستشف عدم اقتناعه بما يقول، وأكثر من ذلك تتساءل إن كان يفهم ما يقول، أو، على الأصح، ما يردّد. وإذا كان الإعلام الرسمي من أبرز ما انعكس اللامعنى فيه (وقد دفعته الثورة إلى الاعتذار) فإن ما كان يخفّف من وطأته هو قلّة تصديقه. أما أبرز ما أُذل فيه المعنى فهو فضاء المعارف، الفضاءُ المجعول لإنتاجه، حين روّضه بعض أهله على تزييف حقائقه، فإذا بالمعارف تمتثل لسلطة الأميّ وتدعو له بالتوفيق في جهله. لقد كان صاحب السلطة متعاليا، بأميّته، إلى حد أنه لا يرى الحقائق والظواهر، تحته، إلاّ مقلوبةً. لهذا يمدّه البعض بمعانٍ مقلوبة ليثبتوا له أنه على حق. في هذه الحالة، تنتفي إرادة المعرفة وأخلاقياتها، لانتفاء شجاعة الحقيقة، كما رأى ميشيل فوكو، تقريباً وإذا كانت ردود الفعل الأولى قد انشغلت بكشف التواطؤ فإن الأصعب والأبعد هو أن تعود المعارف إلى فضائها، وخصوصاً إلى «إنسانياتها». اتجهت الثورة، منذ لحظاتها الأولى، إلى امتلاك المعنى: إلى طرد المفروض واسترجاع المسلوب وصنعِ ما كان ممنوعاً وليكون لها ذلك بدأت بافتكاك الكلام ممن كانت لهم سلطة ملكيتِه، لم تقدر على إسكات من لا حياة له خارج الكلام: ما ظُنّ أنه صمتُه لم يكن إلاّ تمتمةً تستظِل بما تعالى من أصوات الثائرين، هي، له، لحظة اتّقاءٍ أو تقيّة، في انتظار الخروج على الناس، شاهراً صوته، من جديد. ولقد تبيّن أن انتظاره أقصر مما كان يُظنّ، مَن تعوّد تقليب الحقائق لا يحتاج انقلابه إلى اكتساب دُربه: في الكلام، «ولد النظام عوّام»! فُسح الكلام لمن طال حرمانهم منه. هكذا امّحت وجوه كانت تملأ الشاشة وظهرت أخرى ليس لها بها عهدٌ، وجفّت ألسنة كانت تسيل في الصحف، وأمطرت أخرى بما ملكت، أقوى اللحظات الأولى كانت في «الشعب يريد اسقاط النظام»: لأول مرّة، فارقت الكلمات الأربع معانيها القديمة، المجمّدة، في الخطاب الرسمي، منذ نصف قرن. الشعب كان دائماً موجوداً، ولكن خارج المجال السياسي: كان كائناً «توجده» السلطة، بلا نواةٍ ولا حدود، لكي يكون علامة وجودها ومصبَّ سلطتها. اليوم تكثّف وتحرّك، تدفعه إرادة الحياة والفعل، فإذا هو قوّة فعلية، فيها ما يكفي للاقناع بأن مقولة «سلطة الشعب» القديمة لها أن تتجسّد، واقعا ملموساً، وأن تُسقط ما ليس منها من شرعياتٍ فئويّة أو مؤسسيّة، محتكَرة أو منصَّبة. وهي إذ أسقطت رؤوسا ضاعت في البلدان والسجون، تعلم أن الرؤوس ليست إلاّ أعالي النظام الذي «ينظّم» مجتمعاً. هو نفسه، قد يطيح بها أو يستنسخها، حمايةً للقائم لا تغييراً. ما لا يبدو منه، ما يخفيه، هو الأكثر مقاومةً واستمراراً. ما صورة النظام في الرؤية الشعبيّة؟ ما حدوده، في المطلب الشعبي، وراء «أجهزة الدولة»؟ هذا ما لا نعرفه الآن، على وجه التحديد، ولكننا نعرف أن قوة «الشعب يريد اسقاط النظام» وأمرُ «ارحلْ» سَريا، عربيا، بل بدأ يتلقاهما شباب في أوروبا، وكأنّ «التخوم» العربيّة تصدّر إلى «المركز» ثوراتها، من دون عمد. لا يتجدّد المعنى، بالسرعة نفسها، في المجالات كلّها. لقد بدت الحريات والقوانين وإجراءات السياسة من أكثر المجالات سرعة في استنباط المعنى، في حين أجّلت معانيها مجالاتُ الاجتماعي. وإذا كان يفيد ضرب المثال على سرعة ما فعلت الثورة بالذهن واللسان فأوضح الأمثلة وأغربها تحوّل خطاب الإعلام، في بضع دقائق، إلى خطاب نقيض: عندما كان بن عليّ يستعدّ أو يُعَدّ للهروب (مغرب يوم 14/1/2011) كانت التلفزة الرسمية تبثُّ برامج عن الإشاعة في صدر الإسلام وعن البحار وأحيائها. وعندما ظهر «العاجل جدّاً»، يعلن أن «حدثاً هاما» سيعلَن عنه، كان الحديث عن البيئة، مسنوداً، على الشاشة، بما تلقيه الحيوانات من فضلاتها. كان «المحاور» يتلقى، من حين لآخر، مكالماتٍ تشكر الرئيس على «فهمتكم» وعلى «خطابه الرجولي الذي استعمل فيه الدارجة، تلبيةً لحاجات التونسيين» (هكذا)، وتشهّر بمن «يخرّبون لأنهم لا يستمعون إلى التلفزة» (هكذا، أيضاً)، وتشهّر، تحديداً، بشغب الشعب وتخريبه، وبغياب الوعي لدى الشباب. ولقد كان»المحاور»، في كل مرّة، ينهي المكالمة بعبارة «يعطيك الصَّحه»، وهي شكر وتهنئة بصواب القول. تأكد هروب بن علي فإذا «الصواب» ينقلب خطأً وذنبا، وإذا بثعابين المعنى تغيّر، على عجل، جلودها: الحكم، والحكومة، والشعب والشغب، والمجتمع المدني، والديمقراطية، والحقوق، والمطالب المشروعة، كل هذا وغيره انزاح معناه من خطاب إلى خطاب، في ومضة شاشة. كان الوضع أكثر رأفةً بالصحافة، إذ أمهل انقلابَها إلى الفجر. ما أغرب انقلاب معانيها بين فجريْن! الثورة إنتاج معنى. مدُّها، من جهة الفكر، مدُّ معنى يتسرّب إلى كلّ مجال. لهذا تفكّ الثورة حصار المعنى، تحرّره، تستنبطه، تجدّده، تبدعه: لا أسوأ من انغلاق المعنى، ولا أسوأ، في ثورة، من مرحلة ينغلق فيها، عليها، معناها. سؤال الفاعل انشغل حديث الثورة بتفصيل الفعل وتحاشى تحديد الفاعل، إلاّ ما استقرّ منه، في التعميم، منذ البدء: ثنائية الشعب والشباب، مضافا إليها الطبقة الوسطى، بتردّد واضح. ولم يكن غياب التحديد لضيقٍ في الرؤية وإنما لتداخل أصناف الفاعلين، عبر الفضاء الاجتماعي كلّه، ولضيق الوقت بصيرورة التمايز والفرز. لقد كان من الصعب، على وجه الخصوص، معرفة انعكاس التمايز الاجتماعي في تركيبة الحركة الثوريّة. هذه الصعوبة ليست تحليليّة، فحسب، وإنما واجهتها الحركات والأحزاب التي لم تستطع تحديد «فاعليها»، وإنْ أوحت بأنهم وراءها، في موقع ما، وبحجم ما، ينتظرون ساعة الفرز الانتخابي. وإذا بدت لقليلها ثقةٌ بقواعدها فأكثرها لاذ بشعارات فيها نيّة إغراء «الجميع». وأغلب الظن أنه لو صُنّفت شعارات ستين حزبا، تصنيفا ذا دلالة في علاقته بالتصنيف الاجتماعي، لسقط من العدد تسعةُ أعشاره. لم يكن من قبيل الصدفة أن يبرز ثالوث الشعب والشباب والطبقة الوسطى في ثورةٍ نزعت الى الكليّة والقصوويّة: لقد كان تثبيتاً تلقائيا لاجتماعيةِ الحركة الثورية. نعلم ما يلاقي، اليوم، مفهوم الحركة الاجتماعية من نقد أو رفض لدى أصحاب «البراديغما الجديدة» المعلنين تعويضَها بالحركة الثقافيّة. قد يكون صحيحا أنّ مطلب «الحرية والكرامة» مطلبٌ ثقافي، ولكن في ظاهره فقط. في باطنه، في ما يحرّك معاناةَ شعب، بما احتوى من شبابه وفئاته، هو، في كليّته وأقاصيه، مطلب اجتماعي، مهما تقاسمته «الهويّات» واختزلته الظروف والمراحل. لا شك في ضرورة إعادة النظر في تعريفات الحركات الاجتماعيّة، باعتبار الجديد منها وما خرج عن التعريفات المألوفة، منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ ظهور الحركات العمالّية في المجتمع المصنّع، وصولاً إلى حركات المجتمع المدني، ومروراً بحركات التحرر الوطني. لكن إذا كان الالحاح على جدّة الحركات مبرّراً في مجتمعات ترتبط فيها الجدّة بطور من أطوار الحداثة (وهذه حدود مبررات آلانْ تورينْ، مثلاً) فإن ما يُفترض من «انهيار العالم الذي سميناه اجتماعيا»، بسبب تفكّكه وتعاظم القوة الموضوعة فوقه والدعوة إلى الفردانية فيه، هو مما ينبغي الحذر في تعميمه. قد تكون الجدّة، عربيّاً، في محصلتها وإجمالاً، في اتجاه معاكس: تنتقل حركات المدّ الثوري، مهما علت شعاراتها الثقافية ومهما عُلّقت دلالتها الاجتماعية، من الثقافي إلى الاجتماعي، مروراً بالسياسي. حتى الديني باستثناء مُعنِّفيه- هو ساعٍ، بالسياسة، إلى إنزال المطالب من السماء إلى الأرض، وهو سعي يسمىّ «اعتدالاً». من الصعب، إذا، تصنيف الفاعلين في الثورة العربية الجارية، حتى ولو انحصر التصنيف في بلد واحد مثل تونس. ما يمكن فعله، في نظري، هو التركيز على اجتماعيّة الفعل والتساؤل، ضمنا، عن حدود المجازفة أو التسرّع العربي في سحب هذا الفعل من الواقعي إلى «الافتراضي»، ولرّبما إلى الأسطوري: ظهر الشعب، فاعلاً، كقوة مادية ذات حجم، وكقوة رمزيّة، كامنة، تسكن المفاجئَ من الظواهر، ولا تُردّ لأن في ردّها فقدانَ شرعيّة. لا سلطة جرؤت على القول بمواجهة شعبها، إذ هي، قولاً، لا تواجه إلا «أعداءه» الخارجين منه، عليه. مفهوم الشعب، مثلما هو مفهوم المجتمع، لا يفيد كوحدة تحليليّة، لعمومه، ولكن التحريك به فاعل، في الثورة، بإحالته إلى أوضاع الفئات الغالبة ومطالبها. وبقدر ما كان مفهوم الشعب مريحا، لا يتطلب استعماله توضيحاً، كان مفهوم الشباب ملتبساً. أول اللبس سياسي أو إيديولوجي: قد يزيل التركيز على الشباب شعبيّة الفعل الثوري. يقابل هذا عدم التمسّك بفئة عمريّة، حتى لكأن المقصود بفعل الشباب «شبابيّة» الفعل. هذا غير مستبعد، فقد شارك في الفعل من مسح بيده شيب رأسه وقال قولته الشهيرة: «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة». على أن الأقصى، ولعله الأقسى، هو الميل إلى المماهاة بين الشباب وفئةٍ فايسبوكيّة أو فئة «الشبايبوك»، إن صحّ المزج. القساوة على الشباب، ولربما على أنفسهم، هي في نسبة الفعل الثوري إلى التقنيّة، نسبةً غيبت فاعلين حقيقيين، مثقفين، واعين، أذكياء. إن الحديث كثيراً ما يكون عن الفايسبوك أو ما شابه من الشبكات، وكأنه الفاعل الأول والأخير، من دون حاجة إلى ذكر أصحابه المتحوّلين إلى أسماء خفيّة، باستثناء من أُتيح له منهم الظهور. لقد غيّر الشباب ما ساد، طويلاً، من صور منمّطة عنهم، ولكنّ الاختزال التقني هو أيضاً ينمّط صوراً أخرى، أخطر ما فيها تغييب الفكر والوعي، أي قدرة الشباب على بناء خطابهم الثوري، وهو لم يَنبنِ بعدُ. قد يبدو في لفت النظر هذا موقفٌ من ثقافة جديدة. إن بدا ذلك فخطأٌ، لأن القصد من لفت النظر تثمينٌ وتحصين لقدرة شباب ثبّتوا، في الواقع، ارادةً هي الأضمن للفعل الثوري، على المدى البعيد. فِعل الطبقة الوسطى له مضمون اجتماعي هو في مفهوم الطبقة ذاتها، ولكنّ النظرة إلى هذه الطبقة، على أنها من مكونات الشعب أو من صلبه، أكسبتها الثوريّةَ وجرّدتها من طبقيتها. وإذا كان الداعي إلى استعمال المفهوم هو الإشارة إلى أصنافٍ من نوع المتعلّمين والموظفين وذوي المهن الحرة ممن شاركوا في الثورة فإنّ لا طبقيّة النظرة تحول دون معرفة شكل الوعي الخاص بهذه الطبقة، مقارنةً بغيرها. وعلى كلٍّ، فالجديد، في مرحلةٍ تراجع فيها حديث الطبقات وكثر فيها الحديث عن تآكل الطبقة الوسطى، ان الثورة أعادت الفعل إلى هذه الطبقة المشكوكِ، تقليديّاً، في أمرها. هذه أصناف ثلاثة من الفعل أبرزَها خطابُ الثورة وحملتها حركات اجتماعية، لا هي فوق الاجتماعي ولا تحته. وهي يمكن أن تتفرّع (كأن يظهر، في الشعب، «مواطنون» ثبتت مدنيّةُ فعلهم) أو أن تمتدّ إلى «مكونات» المجتمع المدني التي اتسعت مبادراتها وتنوع فعلها، وإلى الإعلام، أكثر الفاعلين «افتراضيّةً»، وإلى الاتحادات، بداءاً بالنقابية منها، ولربما إلى بعض الأحزاب، وإن بدا فعلها مشدوداً إلى سياسة أهدافها. لا يزال الفعل الثوري في مرحلته الأولى، بين مد وجزر. مراحله القادمة أصعب لأن ممكن الفعل قد يضيق بالمستحيلات، ولأن الفاعلين قد تتغيّر مواقعهم، فهناك من سيقف دون القطيعة التي هي عنوان كلّ ثورة، وهناك من سيواصل فعل التجاوز. عندئذ سيكون الحسم أوضحَ والتصنيف أسهلَ.