يخص المفكر الكبير الطاهر لبيب جريدة «الصباح» بسلسلة من المقالات تحت عنوان « أسئلة الثورة» سنتولى نشرها كل يوم جمعة بالتزامن مع صحيفة «الدستور» اللبنانية. و نشرع بداية من اليوم في نشر السؤالين الأول والثاني اللذين عنونهما ب» المعرفة» والتلقائي» وهما من جملة الثمانية أسئلة التي يطرحها ويناقشها الدكتور . 1- سؤال المعرفة من فاته أن يتواضع، باسم ما يعلم، له أن يتواضع، باسم ما لم يعلم، هذه المرّة: لقد فاجأته الثورات العربيّة «إنسان عادي» يسبقه إلى منعطف ليس لمعرفته خبرةٌ فيه. هذا «الانسان العادي» باغت النصَّ العربي، فهو لم يخرج منه, طال الحديث النظري عن فاعل تاريخي، ولكن على وجه الحدس: حدسٍ توقّع الحدث دائماً، وانتظره انتظار القريب، في مراحل سابقة، ثم أجل «حتميته» إلى أجل غير مسمّى, بقي التوقع وغاب الانتظار. بين هذا وذاك راجت ينبغيّات هي أقرب ما يكون إلى الحس المشترك بين الناس, أما البحوث الميدانية، بدءاً بالاجتماعيّة منها، فاكتفت بتوصيفٍ ما استفاد منه الموصوف، في حياته، ولا الواصف في علمه. وإذا كان للتحليل النظري أن يجد دائما، في طياته، ما يوحي بالتنبؤ فإن البحث الميداني المدّعي دقةَ المنهج لا يمكنه ادعاء رائحة الميادين الثائرة. ما حدث، كما حدث (أقول: كما حدث) باغت ما ساد من معرفة بالمجتمع العربي وبالفاعلين فيه أكثر من ذلك: باغت المناضلين من أجل تغييره، في مرحلةٍ ما زال يعرف فيها المناضل ضد من يناضل ولكنه لم يعد يعرف مع من، ولمن يناضل، إلاّ في ما ندر من التحديد والتخصيص, اليوم أومأ إليه الشعب أنه هنا والآن، وأنه لم يعد تلك الكتلة الهلاميّة التي كان الخطاب فيها وإليها على وجه التجريد والتعميم. من الصعب، والحال هذه، إدعاءُ الفهم, الفهم استخراج دلالةٍ، هي، أساسيّاً، ما يسنده الفاعلون إلى فعلهم من معنى, هذا المعنى لا يفيد فيه الرصد إلاّ إذا طابق ما هو آتٍ من أعماق واقع الفاعلين, هذه الأعماق مستعصاةٌ في ما يخيَّل من هدوئها فكيف لا تستعصي في تحرّكها؟ لا حلَّ غير اتخاذ مسافات السؤال والافتراض. وأضيف إلى الحذر، في هذا النص، تفضيلَ الكتابة مَقاطعَ، تركا لفراغات لا قدرة لي على ملئها,. الحذر هو ممّا قد يُعطي تماسكاً مصطنعاً لمعرفةٍ ليس لها أن تنضج في هذه المرحلة من مراحل الفعل الثوري, أما الخوف فأن تَستعجل المعرفة شرعيتَها، وتالياً سلطتها، في ظرف جديد لم تأنسه آليات بحثٍ قديمة. المعرفة، في سياق كهذا، ومهما كانت نصيراً للثورة، يغريها، عاجلاً، أن تلتفّ على معناها مهما يكن، على المعرفة أن تتساءل عن ذاتها: في انتظار أن تفكّ الثورات العربية خناق الفكر والبحث فيستعيد الرأيُ عزمَه والفكرة مداها والعبارة جناحها والمنهج وسيلته، بأي معرفةٍ نتناول ثورة لا تزال جاريةً؟ سؤال لا يلغي حرجَه المعرفي ما يسود، حتى الآن، من مطاولة الحدث، تعليقاً وموقفاً عابرين, لا يلغيه، أيضاً، استماع النخب إلى ما سمّوه «نبض الشارع»، يصرّفون ما «سمعوا» منه مع ضمير المتكلّم، مع الأنا والنحن. بعد كل هذا، هل للسؤال، مهما كان فيه من الحذر، أن يتحفّظ على التسمية؟ واضحٌ أن وقت الثورات العربية لم يتّسع، بعدُ، لبناء خطابها، ولكنّ لهذا الخطاب عنواناً ثبّتته التسميةُ: منذ البدء، أُطلق على الحدث اسمُ الثورة ونودي به. من تحفّظ عليه، دالاًّ، وجد سنداً في غموض المدلول: رأى ما حدث انتفاضةً أو رآه أكثر من انتفاضة وأقَّل من ثورة في بلدان الخوف العربي قيل: تمرّدٌ أو عصيان، وقيل: سكرةٌ تُرجى لها الصحوةُ. «بلاغة» الأنظمة استعملت الجِناس: الثورة ثورٌ والشعبُ شغبٌ, لا براءة في كل الحالات، إذ للتسمية استراتيجته. ولكن، إذا كان هذا فلِمَ لا يُحتفظ بتسمية أطلقها الفاعلون على فعلهم؟ بأيّ معرفة (ناقصة) وبأي أخلاقيّةٍ يُسلَبون الحقَّ في اختيار عنوان فعلهم؟ ثم أليس في النفي الدلالي للثورة نفيٌ دلالي للثوار؟ صحيح أن الثورة بما تنجزه، ولكن لمَ لا يُنتظر الإنجاز، من دون تسميةٍ تقصّر، في الدلالة، آجالَه؟ «رهان باسكال» كان في إقناع من لا يؤمنون بالله بأنه ليس لهم ما يخسرون في رهانهم على وجوده، ولهم ما يربحون. الرهان، هنا، أيسر لأنه رهان على إرادة ما هو موجود. 2- سؤال التلقائي حدساً، كان «من الطبيعي» أن يستجيب القدر يوماً ما لكن ما حدث، كما حدث، لم ينتظره، في وقته، أحد: لا محمد بوعزيزي، شرارتُه ورمزه، هذا «الثائر» بلا ثورة، ولا الجماهير المتوالدة مطالبها، ولا النخب الملتحقة بها، ولا المحلّلون القابعون على سطح الظواهر، خوفاً أو عجزَ تحليل. اعتاد واقعنا واعتادت تحاليلنا وجود أو إيجاد «أطراف» «تقف وراء» ما يحدث. السبب الأول تسليمٌ سائد بعدم قدرة المجتمع العربي على بناء «الذات الفاعلة»، جماعيّاً لا يُستغرب، والحال هذه، أن لا يُستساغ القولُ بتلقائية الثورة الشعبية في تونس، خصوصاً في المشرق العربي, نتفهّم الاستغراب، فالظاهرة غير مسبوقة، عربيّاً: أن يخترق البلاد، أفقيّاً وعموديّاً، جغرافياً واجتماعياً، مدّ شعبي، بهذه التلقائية الميدانية، خارج كل تأطير قيادي، وبهذه السرعة في الحركة، وبهذا الإصرار في طلب الأقصى، فهذا مما يخرج عن الترسيمات المألوفة للثورات. التلقائي هو أن يكون الفاعل مصدرَ فعله الأول، أن يكون، في البدء، الفعلُ هو قلبٌ لتسلسل التجارب القيادية: التنظيم والقيادة نتيجة للفعل، وليس العكس أمّا قوّة التلقائي ففي ما لا يُنتظر، في ما يباغِت: هو لا يترك متّسعاً لردّة الفعل، إذا اتّسع وتسارع مثلما حدث في تونس, ماذا كان يكون لو تهيأ للحدث قمعُ السلطة كما تهيأ له، لاحقاً، في بلدان عربية أخرى، فأصبح خيار البقاء بين رأسٍ وشعب؟ ماذا كان يكون لو تحوّل الشعب إلى «جماهير» لها قيادات تجتمع وتناقش وتختلف وتفاوض؟ ماذا كان يكون لو تنبأت قوى الخارج المتربّصة بكل نبضٍ شعبي فتهيأت لإسكاته؟ لا ندري، على وجه التحديد، ولكن من الصعب تصوّر «القُصوويّة» تأخذ مداها إلى هذا الحدّ: لا تتوقف، لا تتراجع، لا تتنازل، وخصوصاً لا تفاوض, في التفاوض المبكر شبحُ «الإجهاض»، يُربك القياداتِ بتُهمتِه, بعضها فهم، بدءاً أو متأخراً، رفض الناس تأطيرَ ثورتهم، خوفاً من انتهازيةٍ أو وصولية «تلتف» عليها, تماهى معهم، تحوّل، إلى «واحد منهم»، يتكلّم باسمهم وعوضاً عنهم (في الثورة الفرنسية اكتفى البعض بأن يكون «صديق» الشعب، لا أكثر). لقد أدرك أن «جماهيره» لم تخرج من بياناته، وأنها سبقته حدسا وتحركا ومطلبا, عاين كيف ركضت قيادات الفكر والسياسة، وراءها، يلوح منها، في بعض المحطات، ضيقُ نفَسٍ لم يتمرّن على الذهاب معها، بهذه السرعة، إلى أقاصي مطالبها. الحيرة واضحة بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل، على حد تعبير غرامشي. إجمالاً، مالت إرادة الثائر إلى «الاعتصام» في الزمن الطويل ومال عقل السياسي إلى «الحكم المؤقت»، يناور «الانتقالي»، وعينه على ما هو أبعد. في هذا اختزالٌ، ولا شك، ولكن مهما كان بين الطرفين من جدليات التداخل والتباعد الأخرى، فالعلاقة بين التلقائي والقيادي لم تخرج عن علاقة الاحتمال بالحساب: احتمالٍ تفتحه الارادة وحسابٍ تغلقه السياسة. ميدانياً، أدّت صعوبة المعادلة أو استحالتها إلى اسقاط أكثر من حكومة، حتى الآن، وإلى أن يعيد النظام حسابه، في انتظار ما يَكتسب به «شرعيةَ» الغلق. هناك تحفّظ قديم إزاء التلقائي في التاريخ، مأتاه التجريبي ارتباطُ الحركات والثورات والأحزاب بالقيادة والتنظيم وإذا كان مفكر مثل غرامشي يرى أن لا وجود في التاريخ لتلقائية محض لأن تلقائية كهذه تكون «فعلاً ميكانيكياً محضاً» فقد جعل «القيادة الواعية» شرطا لفاعلية التلقائي ومعلوم ما امتد إليه هذا التحفّظ وتفرّع من مواجهات فكرية وسياسية بين ما سُمّي «نخبوية» و»شعبويّة». هذا التحفظ التقليدي إزاء التلقائي الشعبي يواجه، اليوم، ظواهر لم تألفها الثورات الكبرى السابقة. من ذلك، مثلاً، هذه الثورات العربيّة التي لا «قيادة واعية» لها (إلاّ ما تفرزه حركتها، ذاتياً وميدانياً)، وتدخّل تكنولوجيا الاتصال، وسيطا بين الفاعلين، توجِد التزامن والمباشرة والتنسيق والتعبئة، من دون حاجة إلى هرميّة أو تراتبيّة يضاف إلى هذا ما أتاحه مجتمع الاستهلاك المادي والافتراضي للفرد من إحساس بالتصرف العفوي، فهناك دراسات كثيرة تلتقي في القول بأن التاريخ لم يعرف ما نعرفه اليوم من توسع العفوية، ومن تنوع أشكالها ومجالاتها. ومهما كانت درجة الدقة في هذا فإن في ما بدا من مؤشرات، بدءاً بالثورات العربيّة، ما يدعو إلى إعادة النظر في الرؤية التقليدية لدور التلقائي في التغيير الاجتماعي. أستاذ جامعي ومفكر تونسي - بيروت