تشهد الساحة الفكرية التونسية، بعد ثورة 14 جانفي 2011 نقاشات كثيرة ومناظرات في وسائل الإعلام بين فرقاء سياسيين جمعت بينهم رؤى متباينة للشأن الديني قراءة وتحليلا ومقاربة. وممّا يلفت الانتباه أنّ كثيرا من تلك الآراء كان متداولا على صعيد ضيق أو في منابر أكاديمية مغلقة أو في كتب ومؤلفات محدودة الانتشار والتأثير، فجاءت الثورة التي أماطت اللثام عن تلك الآراء والاجتهادات والمواقف وأجْلت حقيقة دعاوى أصحابها... ولعلّ التطرّق إلى الشأن الديني في مثل هذه الحيثيات المخصوصة المتسمة بكثير من اللغط والتشكك والتوجّس خيفة من نوايا كلّ طرف، يحتاج إلى كثير من التسامح والتعاون للوصول إلى توافقات ناجعة لإخماد فتنة القول وفتنة العمل. والقضايا غزيرة ولعل ما أود ان أشير إليه في هذه الورقة، بإيجاز، يقتصر على نقطتين: 1/ الاجتهاد في القضايا الدينية ليس حكرا على المتخصصين، ذلك أنّ الدين أمر يعتنقه الفرد أو لا يعتنقه. ولا يمكن لأحد أن يقرّ بالوصاية على أفكار الناس ورؤاهم، ولكن الشأن الدينيّ له جانب أكاديميّ واضح، ولا يمكن لمن هبّ ودبّ أن ينطّ على تلك القضايا فيصبح مفتيا أو ناقدا أو محتكرا للحق والصواب، أو مفنّدا لثوابت الدين وللمعلوم منه بالضرورة. فلا اجتهاد مع النصّ، لأنّ كلّ مؤسسة مهما كانت بما في ذلك الألعاب لها نظام، لا يُمكن تقويضه بدعوى الاجتهاد. فقد ورد في سنن أبي داود: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ البِتْعِ فَقَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ». 2/ تختلف العدة المنهجية والتوجهات الفكرية لقارئي التاريخ الإسلامي، ولذلك فلا عجب أن تطلع بعض الأصوات علينا بقراءات وبتوجهات مختلفة ومتناقضة. لكن المثير للاستغراب أن تتعارض تلك القراءات مع أبسط قواعد اللسان العربي معجما ونحوا وبلاغة وتداولا. فمنهم من يفهم حديث الوارد في صحيح مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ، قَائلا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا نَسْقِيكَ نَبِيذًا؟ فَقَالَ: «بَلَى» ، قَالَ: فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى، فَجَاءَ بِقَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا خَمَّرْتَهُ وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا» ، قَالَ: فَشَرِبَ. ورد ضمن باب في شرب النبيذ وتخمير الإناء، انظر: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261ه): المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، الجزء3، صفحة 1593. فكلمة «نبيذ» وعبارة «خمّرته»، عند القارئ المتعجّل، غير المطّلع على خصائص اللغة العربية ومعانيها قد تجعله يُسيء فهم الحديث، فيذهب إلى أنّ الرسول لا يمانع في شرب الخمرة، أو أنه يدعو إلى صناعتها. وهذا الفهم الخاطئ مردّه عدم معرفة أنّ «النبيذ» هو بلغة العصر: العصير و»التخمير» هو التغطية. فيكون معنى الحديث الدعوة إلى تغطية الإناء. والعجيب أنّ هذا الضرب من الفهم المجافي للصواب يصدر عن بعض من يُفترض أنّ خبرتهم في التصدّي للنصوص بالقراءة والنقد والتمحيص ممتدّة. فكيف بالمبتدئين؟ ههنا ندعو إلى التوقّف عن الانفلات «الاجتهاديّ» بدعوة هؤلاء إلى مراجعة أهل الاختصاص ممّن لا توجّههم إلا اعتبارات علمية محضة لا دعوات إيديولوجية تتخفّى وراء الحرية الأكاديمية العرجاء، لأنها حرية في اتجاه واحد، لا تضمن للمخالف إلا صورة نمطية مفادها حشره في زاوية معاداة الحداثة، وكأنّ الحداثة الحقيقية لا تقوم حتما إلا على أنقاض التراث. *باحث وكاتب