زمن بن علي كان الإعلام المرئي لا يبحث سوى عن الإثارة حتى وإن كانت تمسّ مشاعر الناس أو قيمهم.. انغمست المحطات التلفزية فيما سمي «تلفزيون الواقع» واستباحت البرامج المختلفة أسرار السذج والبسطاء بل ودخلت مضاجعهم لتصوّر باسم نقل الحقيقة تفاصيل مخجلة وماسّة بالحياء... كان الأمر جزءا من مؤامرة تورط فيها الكثير للقضاء على كل ما هو جميل وأصيل فاستبدل الشعر بآلات النفخ الشعبي «واستعيض عن «وابور» عبد الوهاب «بالحنطور». شاء بن علي لتونس أن تتسطح وألا تؤنث فلا تنبت زهرا ولا شعرا ولا أدبا.. حتى البرامج الموجهة للبراعم البريئة صارت منابر لاستعراض القبح.. وشيئا فشيئا أدمن السفهاء البذاءة وصار الناس يتغاضون عن الألفاظ والمشاهد الخادشة للحياء ببرامج السهرات «الرمضانية». لم يكن الإعلام المرئي يعنى بغير تلميع صورة الطاغية ونعليه.. حتى البرامج الرياضية لم تخل من التسبيح بخصاله فبكى مقدّم أحدها ونزلت الدموع من عينيه سخيّة وحارة فرحا بما أنعم مولاه من قرارات.. هكذا كانت المبادئ الأولمبية في إعلامنا الرياضي، تنافس وتسابق في لعق الأحذية والأماكن التي تطؤها الأحذية. اليوم وبعد هروب الطاغية هلّل الجميع للحرية التي أهدتها الثورة للإعلام رغم أنه لم يساهم فيها بمقدار ذرّة خردل.. لكن المفارقة أن إعلام الدولة المرئي هبّ لينفض عنه شيئا من مخازيه أما الإعلام الخاص بقناتيه المعروفتين - فقد انبرى يمارس شعوذة وهرطقة يبتغي منها مواصلة الضحك على العقول والذقون.. الكل يعلم أن هذا الإعلام لم يسع يوما في إزاحة حجر من طريق الحرية ولم يلعن جهرا ولا سرا عائلة الأخطبوط التي كان أحد أفرادها.. واليوم تجد إحدى هذه القنوات تردّد وتجترّ بشكل مثير للغثيان بطولات «باعث القناة» في ساحات الوغى المختلفة.. دجّجت هذه القناة باعثها بالنياشين وأوصاف الكماة حتى صار يهيأ للمتفرج أن «باعث القناة» هو الذي اجتاز جبال الآلب وهزم روما في الملحمة المعروفة وليس القائد الأسطورة الذي سميّت القناة باسمه.. اندسّت القناة في خبث السرطان تحت فروة الرأس وطفقت تبرد وتفرك لحاء ذاكرة المشاهد كي تقنعه بأن ما سمعه وشاهده قبل الثورة كان غير ما سمعه وغير ما شاهده.. فباعث القناة كان بثورية أبي ذرّ وغيفارا لكن المشاهد لم يكن يعي أو يفهم ذلك.. عوض أن تغسل القناة خطاياها وتبتدئ فصلا جديدا طاهرا اختارت أن تسلك طريقا آخر وهو أن تمحو من ذاكرتنا كل ما عاصرناه بمرارة واشمئزاز لتقنعنا بأنها كانت غير ما كانت عليه .. والمأساة أنها تفعل ذلك بنفس العيون الوقحة التي لا تزال تقتحم بيوت وعقول الناس لتعلمهم التاريخ والرياضة والفن والسياسة وأمور أخرى مثل مآثر «باعث القناة»... وبعكس الأولى فإن القناة الوليدة حديثا، لا تأتي على ذكر باعثها صراحة أو عرضا.. لكن وكما أن «الصبّ تفضحه عينه» فإن العيون التي تعرضها هذه القناة لا تقدر على إخفاء من يختبئ وراءها.. أولى المستهدفين فيها كانت اللغة العربية، لغة المسعدي والمسدّي التي لم تنع حظها بمثل ما فعلت في برامج هذه القناة.. كذلك كانت الآداب والأخلاق العامة فالبطل في مسلسلات هذه القناة لابد أن يكون أبلها أو مخنثا تلجمه زوجته وتتمرد عليه ابنته القاصر فتعود آخر الليل منتشية، منتفخة البطن من سفاح.. كان مسعى القناة واضحا في سلب التونسي «دينه ويقينه» وتركه «في حيرة لا يهتدي» حتى أن قلة ممن يحترمون جذورهم انسحبوا من حواراتها حتى لا يكونوا أدوات تمويه رخيصة.. كان الأمل كبيرا في أن تحمل نسائم القناة إلينا شيئا من شذى الحرية والتطور خاصة وأنها تحمل شعار لمّ شمل المغرب العربي.. لكن الخيبة كانت أكبر وأعمق من كرهنا للعجز الذي أصاب مفاصل حياتنا.. زاد الإعلام المرئي كميّة الملح بجروح الثورة الغضّة حتى أن سبرا للآراء انتهى الى أن ثلث المستجوبين يعتقدون أن «وسائل الاعلام قد ساهمت وبشكل كبير في المشاكل النقابية والانفلات الأمني والاجتماعي الذي عاشته تونس بعد الثورة» (الصباح 12 / 07 / 2011 ص 7) وعلى الرغم من أن هذه النتائج لا تشمل الإعلام المرئي وحده إلا أنه لاشك في كونه المعني الأول بها.. سيذكر التاريخ ولو بعد حين أن الإعلام المرئي فرّط فرصة إصلاح حالة وآثر أن يجابه الناس بعيون وقحة... وسيذكر التاريخ أنّ ما تعرضه هذه العيون لا يختلف في شيء عن وقاحة الصهاينة الذين يهدمون المنازل وينبشون القبور ثم يقولون بأن غايتهم أن يقيموا مكانها معبدا.... للتسامح! محام