إن الرهان الذي يكون محوره صوغ انتاج إبداعي، لهو المقصد الجوهري، والأشد صميمية في ضمير كل مبدع حقيقي، وهو رهان يتلبس بعملية الانتاج الفني أو الأدبي أو الفكري بكليتها مهما اختلفت وتنوعت أشكالها، فالصيغة الابداعية لمنتج الفنان أو الأديب أو المفكر هي الصيغة النوعية لهذا المنتج، وليس لمظهره الشكلي أو الكمي، ولذا فهي ليست صفة خارجة عن هذا المنتج بل هي جزء جوهري من تكوينه... فالابداعية تشكل بنية تأسيسه في وعي المبدع وأيقونة انتاجه، وعلى قدر تمثل الذات المبدعة لهذا الوعي يكون انتاجها مرآة لدرجة حضورها في هذه الذات، فالإبداعية إذن معترك النزاع النبيل بين المبدعين. ومع ان هذا المفهوم العتيد لا يخلو من تباينات في أذهان المبدعين وتصوراتهم ورؤاهم.. بيد ان هذه التباينات لا تلغي الحضور الذوقي العميق لهذه القيمة الثابتة في ضمير المتلقي، فالإبداعية معنى ذوقي ثابت لا يمكن التواطؤ على تزييف معاييره أو طمس كينونته مهما طرأ على هذا المفهوم من تغيرات دلالية، إذن الإبداعية مقتضى معياري لا يتأثر بما يزحف عليه من تحولات جذرية قد تقتضيها الحداثة كسيرورة مفهومية ديناميكية في بنى الثقافات الحديثة خصوصا. ومعلوم أن الشعر، هو أحد ابرز المنتجات الابداعية التي ابتكرتها الثقافة الانسانية، وقد مثل في تاريخنا الثقافي عنوانا ابداعيا راقيا لحضارتنا العربية والعربية الاسلامية، فهو ديوان العرب، وكنزها الثقافي المتنوع الأكثر ثراء وخصوبة، وهو «فضيلة العرب» على حد قول الجاحظ، وهو التعبير الثقافي الذي بصم الذات العربية بذائقة شعرية عميقة تكاد تكون بنية اساسية في لا شعورها قبل شعورها وقد عبر الشاعر طفيل الغنوي عن هذا الامر بقوله المأثور «العربي ناطق بالشعر أو ذائق له» وفي الأثر المنقول عن النبي (ص) : «لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين». تختلج في نفسي هذه المعاني وأنا أتأمل وضع المشهد الشعري في تونس، وهو مشهد يزخر بالشعراء المبدعين الذين يشهد لهم أهل الذكر بإضافاتهم الابداعية الأصيلة، وخاصة خلال العقدين الأ خيرين اللذين شهدا في تونس حركية ثقافية ونسقا تطوريا من الانتاج الثقافي في مختلف الميادين الابداعية وذلك بفضل تشجيع الدولة ودعمها للتنمية الثقافية باعتبارها رافدا من الروافد الاساسية لمكونات المشروع المجتمعي الحداثي للتغيير، وهو مشروع نهض في مختلف اختياراته على مبدإ الامتياز، والامتياز في دلالته الثقافية لا يعني غير الابداع، الابداع الأصيل والراقي والمنتج وهو ما يبرر القطع مع كل اشكال التزييف الابداعي الذي تمارسه طائفة من أدعياء الثقافة، والأصحّ تعبيرا من مشعوذيها ودجّاليها، وهو ما عكّر صفاء المشهد الإبداعي تعكيرا ملحوظا، وأركز هنا على قطاع الشعر، الذي أصيب جزء منه بداء «الهزرفة» وساهم بعض هؤلاء في استفحال هذا الداء... لقد أورد المرزباني في كتابه الموشح تحت عنوان «ما جاء في ذم الشعر الرديء» هذا الخبر الطريف «حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني ابراهيم بن المنذر، قال: حدثني أبو بكر بن أويس عن عبد الرحمان بن أبي زناد عن هشام بن عروة، قال: سمع عروة بن الزبير من ابن له شعرا وكان ابنه ذلك يقول الشعر، فقال له يا بنيّ أنشدني فأنشده حتى بلغ منه ما يريد من ذاك، فقال له: يا بنيّ إنه كان شيء في الجاهلية يقال له الهزروف، بين الشعر والكلام وهو شعرك» (1) والرواية الثانية من كتاب «نثر الدرّ» للوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي تضيف أن اسم ابن عروة منصور بن الحسين الآبي الذي أنشد الشعر هو عبد الله تقول، هذه الرواية إنه «بلغ عروة بن الزبير أن ابنه عبد الله يقول الشعر، فدعاه يوما فقال أنشدني فأنشده، فقال له: إن العرب تسمي الناقص القائمة من الدواب التي تمشي على ثلاث قوائم: «الهزروف»، فشعرك هذا من الهزروف» (2) وهذا التفسير لمدلول كلمة هزروف يقتضي الذمّ إذ ليس كل من عقد وزنا بقافية فقد قال شعرا، فالشعر أبعد من ذلك مراما وأعز انتظاما» كما قال يحيى بن علي المنجّم. «وليس كل ما يلمع ذهب»... ليسعني القول ان قطاعا واسعا من ساحتنا الشعرية قد أضحى يعاني من ظاهرة «الهزرفة» التي أخذت في التفاقم تفاقما «فقاعيا»، وقد ساهمت عوامل متعددة في انتاجها و «الحفاظ عليها»، لعل من ابرزها النفخ المجاني الذي تحظى به نصوص هؤلاء من لدن بعض أهل الإعلام، بغثها وسمينها وببرها وسوسها، ويدعم ذلك ما تقوم به بعض الشخصيات الجامعية الاكاديمية بتفضلها بكتابة المقدمات الفضفاضة «لدواوين» هؤلاء مما من شأنه ان يضفي نوعا من «المشروعية الابداعية» لها وهو أمر يؤسف له فعلا، أليس الأحرى أن يتصدى هؤلاء النقاد الأكاديميون لهذه «الطفيلية الشعرية» و «الأشعبية الشعرية» التي وفدت ساحة الابداع من الباب الخلفي وبأقعنة متعددة؟؟ أليست الموضوعية النقدية هي منهج النقاد ومقصدهم العلميين في تقويم النصوص الشعرية؟؟ أليست العواطف أخطر العوائق الإبستيمولوجية في المعرفة النقدية؟؟ لماذا يغيب النقد وتستفحل الظواهر النقدوية المفعمة بالإخوانيات والمجاملات والمحاباة؟؟ لا أعتقد ان شاعرا تونسيا يتمتع بحصانة نقدية مهما علا شأن إبداعه فضلا عن ان يكون شاعرا عاديا أو أقل من ذلك.. لماذا هذه الاستقالة النقدية من قبل أهل الاختصاص؟؟ لقد رأينا الشاعر الذي يمسرح إلقاءه بطريقة بهلوانية، شديدة الإضحاك، ويصفق له الجمهور بحرارة، وهو الذي من مآثره أن يرصف شعره «حبات» صغيرة، وأن يجعل من الصفر مع الصفر يساوي نظارة، وان يجعل من علبة الجعة بثلاجته رغوة لصابون الحلاقة فيستنبت منه «لحية سكرانة»... فهو الشاعر «العياش» بشعره... ورأينا الشاعر الذي يتمتمم شعرا. وهو صاحب «نظرية التمتمة الشعرية» بلا منازع، وهو الشاعر الذي أفلح في تسخير أقلام صفوة من الأكاديميين والمترجمين لترجمة نصوصه الى الفرنسية حتى تعمّ الأفراد والجماعات والشعوب الناطقة بهذه اللغة فلا يُحرمون من «رذاذها» العجيب والأدهى ان يتكرس هؤلاء لترجمة نصوص هذا الشاعر «المتمتم» فما أجرءه... وما أجرءهم... وأعجب العجائب ان شاعرة تونسية استطاعت بأنوثتها «المائية» و «خجلها الياقوتي» أن تؤنث كثيرا من النقاد مرتين... وأكثر... أعني «ذكور الماء» وأن تستقطبهم زرافات ووجدانا من الأنحاء المختلفة للوطن العربي فيكيلون المديح الطويل والعالي لنصوصها الاعجازية الخارقة... أي مشهد سريالي تتوفر عليه بعض جهات ساحتنا الشعرية... إنه ليشعر «بالرضة الثقافية» «traumatisme culturelle» حقا... والى هؤلاء وأمثالهم أسوق هذه الشواهد لكي يعتبروا، «فالمعتبَر كثير، والمعتَبِر قليل» كما يقول الحسن البصري، قال الجاحظ «من صنع شعرا ووضع كتابا فقد استعطف وإن أساء فقد أستُقذف. وقال حسان بن ثابت: إن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته: صدقا وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه على المجالس إن كيسا وإن حُمقا (3). وقال دعبل بن علي: سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ويكثر من أهل الروايات حامله يموت رديء الشعر من قبلُ أهله وجيّده لا يبقى وإن مات قائله (4) وقال الحطيئة: الشعر صعب وطويل سُلّمه والشعر لا يستطيعه من يظلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به الى الحضيض قدمه (5) وحُكي أن رجلا قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعر استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه. فقال له: إذ أخذت درهما تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء، هل ينفعك استحسانك إياه؟ وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله وأنشد: وقد يقرض الشعر البكيّ لسانه. وتعيي القوافي المرء وهو لبيب (6) ويقول الناقد الأنليزي «وارن مارتينلي» «لن يكون الشاعر شاعرا حقا الا حين يمنح الناس الإضاءة الحقيقية»... ويقول ميغيل دي أونا مونو «... الابداع أمر إشكالي ومحيّر حقا... ومسؤولية المبدع مسؤولية منخرطة انخراطا أخلاقيا مباشرا وجسيما... إنه أمين في إبداعه لدى الانسانية قاطبة...». وبعد... نجدد القول الى بعض النقاد المستقبلين: إن الدستور التونسي لا يجرّم النقد الشعري كما لا يمتّع أحدا من الشعراء بحصانة شعرية... فانهضوا بمسؤولياتكم النقدية خدمة للإبداع وللثقافة وللحقيقة... الإحالات: 1) أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، الموشح، تحقيق محمد علي البجاوي القاهرة، دار النهضة، مصر، ط 1965، ص 548. 2) الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، نثر الدرّ، تحقيق محمد علي قرنة، ومراجعة علي محمد البجاوي القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، ط 1948 ج 3 ص 191 3/4/5/6 : أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، العمدة في نقد الشعر وتمحيصه، شرح وضبط الدكتور عفيف نايف حاطوم، بيروت، دار صادر ط 2006 ج 1 ص 102/105.