بقلم: د. يوسف النابلي الجدل والصراع والتجاذبات التي احتدت حول إجراء استفتاء بالتوازي مع انتخابات المجلس من عدمه هو موضوع الساعة، مضمون الاستفتاء يتمحور في تحديد صلاحيات ومدة المجلس. هناك شق يرى ضرورة إجراء الاستفتاء بالتوازي مع انتخابات المجلس التأسيسي نصرة للثورة وتكريسا للديمقراطية في أبهى معانيها وشق مضاد يرى عكس ذلك ويشدد على ضرورة عدم اللجوء إلى الاستفتاء بالتوازي مع الانتخابات والإبقاء على نفس المسار نظرا للمخاطر الكبرى لهذا الاتجاه الجديد. أي من الشقين يكمن الجانب الأكبر من الحقيقة ؟ مما يجعل الموضوع والإشكال أكثر حدة هو أن الشقين يعبران عن نفس الغاية القصوى : تكريس إرادة الشعب ونصرة الثورة. فأي شق نصدق بما أنهما يدعيان نفس الغاية ؟ الشيء الوحيد الذي يختلف فيه الشقان هو الطرق المؤدية إلى بلوغ الأهداف. الجواب عن هذا السؤال وحل هذه الجدلية يكمن في معرفة الأهداف الحقيقية لكل شق (هل هي مطابقة لنفس الأهداف المعلنة؟) وفي معرفة هل أن مضمون الاستفتاء يمكن تمريره لعامة الشعب بصفة شفافة وواضحة بدون أي لبس (بعد القيام بدور الإنارة من طرف وسائل الإعلام) أم لا ؟
الأهداف الحقيقية:
معرفة هذه الأهداف هي صعبة لما تكون غير معلنة. فلا نستطيع أن نعرف بالتدقيق وبالجزم فيما يدور في باطن أصحاب الشقين، لكن هنالك بعض الدلائل أو القرائن التي تقربنا إلى معرفة الأهداف الحقيقية وبالتالي معرفة هل هي مطابقة لنفس الأهداف المعلنة ؟ بطبيعة الحال الشكوك تحوم حول الشق الذي يخفي أهدافه الحقيقية.،الصادق في نواياه الحسنة لصالح الشعب ليس بحاجة للتستر عن أهدافه الحقيقية. لكن، وقبل البحث عن النوايا أو الأهداف غير المعلنة، يجب علينا توضيح شيء هام فيما يخص الاستفتاء، بصفة عامة : من الناحية النظرية، اللجوء إلى الاستفتاء هو في حد ذاته أرقى مظهر من مظاهر تكريس سيادة الشعب من خلال تشريكه فعليا في تحديد مصيره. لكن، من الناحية التطبيقية، يمكن تحويل وجهته بصفة مضادة حتى يكون أداة (ذكية وخبيثة) من أدوات السطو على الإرادة الشعبية من خلال التستر على الأهداف الحقيقية أولا وبالذات ومن خلال اللجوء إلى اللبس والغموض في مضمون الاستفتاء والتلاعب في آليات الاستفتاء. الشكوك حول النوايا الحقيقية تكون مشروعة لما نلاحظ تناقضا في أقوال وسلوك أصحاب هذه النوايا ولما نعرف "لون" أو اتجاهها السياسي. يقول أستاذ القانون قيس سعيد في لقاء صحفي : "أن الأطراف التي تدعو اليوم إلى الاستفتاء كانت ترفض هذا الطرح عندما كان الاستفتاء مطلوبا وحين صار الاستفتاء أداة لتقليص اختصاصات المجلس التأسيسي صاروا من أكبر الدعاة إليه". كيف نقرأ هذا التناقض الصارخ والغريب في السلوك : هل هو ضعف فادح في التفكير من طرف نخب سياسية ؟ أم هو مقصود لإرباك المجلس في عمله ويعبر عن الأهداف الحقيقية لهذا الشق تجاه مسار الثورة. أترك للقارئ أن يجيب عن هذا التساؤل. نفس المقال يذكر أن فكرة إجراء استفتاء بالتوازي مع انتخابات المجلس هي مبادرة تقدم بها "التآلف الجمهوري" الذي يضم 47 حزبا "توصف بأنها أحزاب تمثل امتدادا للتجمع المنحل". الكل يعرف نوعية الاتجاهات والأغراض الحقيقية لحزب التجمع (هذا وإن كان حقيقة حزبا بأتم المعنى).
مضمون الاستفتاء :
يتمحور هذا المضمون في تحديد مهام المجلس وفي مدته الزمنية، فلنبدأ بتحليل الوجه الأول للمضمون. بطبيعة الحال، من يريد تسويق الاستفتاء لا ينقصه الحجج. من بين هذه الحجج أذكر خاصة : - انتخابات المجلس الوطني التأسيسي تمثل نقطة انطلاق المرحلة الانتقالية لأننا نعيش حاليا مرحلة مؤقتة، لذا يتعين أن لا تطول كثيرا لأن النسق السياسي العادي يتمثل في إنجاز الانتخابات الرئاسية والتشريعية. - الحد من مهام وصلاحيات المجلس يترجم مبدأ أساسيا في النظام الديمقراطي : ضرورة استقلالية السلط وتوازنها. صحيح أن هذا المبدأ هو ضروري وأساسي. إذن، عدم تحديد مهام المجلس (اتجاه الشق الثاني والمضاد للأول) يقودنا حتما إلى عدم توازن السلط وربما إلى الانزلاق إلى بعض الأخطاء السياسية. ولكن وبالمقابل، هل لنا حل آخر أكثر نجاعة ؟ إذا أمضينا في اتجاه الشق الأول فتعيين الحكومة الجديدة لن يكون من مهام المجلس. في هذه الحالة هنالك فرضيتان لا ثالثة لهما : إما إبقاء الحكومة الحالية المؤقتة لتستمر في تسيير شؤون البلاد وإما تعيين حكومة أخرى جديدة من طرف يبقى مجهولا ويحتمل عدة سيناريوهات. في الفرضيتن، التجربة تقول أن لا استقرار أمني ولا شفافية ولا مجال في القضاء على الإضراب غير الشرعي والاعتصامات العشوائية، التي تشل الحركة الاقتصادية (وهذا ما تريده الثورة المضادة) ما دامت الشرعية غير قائمة. هنا يجب التوضيح أن ظروف الانتقال الديمقراطي هي التي تملي فترة انتقالية مؤقتة، فاقدة الشرعية، فيها جانب من الوفاق الوطني (بعض الوزراء لا ينتمون إلى الحزب المنحل وتأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة). لكن بعد انتخابات المجلس التأسيسي، الظروف تختلف وتسمح بانتصاب حكومة شرعية، الشرعية تستمد من خلال تعيينها من طرف المجلس التأسيسي المنتخب من طرف الشعب. ولماذا الاستمرار في غير الشرعي ما دام الشرعي متاحا ؟ ألم نتعظ بعد من أداء الحكومة المؤقتة المرتجل وغير الشفاف وعجزها في القضاء عن الانفلات الأمني والإضرابات والاعتصامات نظرا لفقدانها للشرعية بالرغم من أن قائدها (الباجي قايد السبسي) يملك عدة خصال فذة قل وجودها (حنكة، ذكاء حاد وسلاسة التعبير). طبيعة هذه المرحلة تتطلب أولا وبالذات الشرعية وبالتالي الطرح الأصلي (إعطاء المجلس كل الصلاحيات) هو ضروري ومحمود حتى وإن تضمن بعض السلبيات. أخلاقيات واختيار تركيبة أعضاء الحكومة حسب الكفاءة (لا لتقسيم الكعكة) المعينة من طرف المجلس تقود حتما إلى تدارك جانب كبير من الأخطاء، تحديد مهام المجلس لا يقود إلا إلى إرباك عمل المجلس وإلى العجز الاقتصادي وبالتالي إلى إطلاق عنان الثورة المضادة.