بقلم: المولدي الأحمر تعيش الساحة السياسية التونسية هذه الأيام على وقع نقاش ساخن، مليء بعبارات التخوين ومشحون بشتى أنواع الاتهامات، موضوعه فكرة الاستفتاء على صلاحيات المجلس التأسيسي ومدة فترة عمله وقد انقسم السياسيون التونسيون حول هذا الموضوع إلى كتلتين أساسيتين، واحدة داعية لمثل هذا الاستفتاء وأخرى معارضة له. والمثير في هذا النقاش السياسي هو أن الداعين للاستفتاء والمدافعين عنه يحاولون بكل جهدهم أن يخفوا عن الشعب الكريم بعض الأسباب الحقيقية لمثل هذه المبادرة السياسية، ومن ثم يحاولون حصر جدالهم مع خصومهم في جانبه التقني-القانوني وفي المقابل يتردد الرافضون للفكرة في تعليل موقفهم هذا وفي كشف حقيقة ما يقلقهم في الاستفتاء، فيظهرون كمن يقر بصحة موقف خصومهم من وجهة النظر القانونية، ولكنهم يرفضونه لأسباب سياسية لا يجدون التعبير القانوني المناسب لها بسبب أن فكرة المجلس التأسيسي في حد ذاتها، والتي انخرط فيها المسار الثوري التونسي، لا تسمح بذلك. وفي هذه الأثناء، وفي ظل غياب الوضوح الذي يتحاشاه الجميع، كل لأسبابه الخاصة، يبقى الشارع التونسي في حيرة من أمره، وتخامره فكرة أن هؤلاء السياسيين إنما يقومون بتلهية الناس عن مصالحهم ولا يعملون إلا من أجل أهدافهم الخاصة، وربما يدفعون بالبلد إلى الهاوية، وهم لا يقولون الحقيقة للشعب لأنهم بكل بساطة لا يمثلون تيارات ديمقراطية متجذرة في النسيج الاجتماعي سياسيا وفكريا ومؤسساتيا، بحيث لا يغامر أحد منهم بقول الحقيقة لقواعده، التي هي في الواقع هزيلة ولا تمنحه أيه فرصة للذهاب بعيدا في الدفاع عن أفكاره وبرامجه بجرأة وأصالة، هذا إن كانت له أصلا برامج وأفكار. كما أن الجميع يخفي عن الناخبين الأبعاد الدولية لمثل هذه المقترحات كما لو أن تونس توجد في المريخ وليس في محيط إقليمي ودولي له توازناته ومصالحه وربما مطالبه. ماذا يقول الداعون إلى الاستفتاء؟ يقدم لنا هذا الشق المجلس التأسيسي على أنه هيئة شرعية مهمتها الوحيدة هي التأسيس التشريعي لجمهورية جديدة، وذلك من خلال وضع دستور جديد للبلاد يغلق كل الثغرات التي تسلل منها الطغاة لتزوير إرادة الشعب وسحب السيادة منه، ويفتح مستقبل تونس على عصر الديمقراطية الحقيقية وهم يرون أنه كان بإمكاننا في الواقع أن نقفز على هذه المحطة "الثورية" من خلال تكوين لجنة فنية من الخبراء القانونيين يقومون بكتابة دستور جديد يتحلى بهذه الصفات ثم يعرض على الشعب للاستفتاء، وهو ما سيسمح بالمرور مباشرة إلى المرحلة الموالية، وهي الانتخابات التشريعية والرئاسية. وبما أن الأمور لم تجر على هذا النحو فإنه يجب علينا، لتصحيح المسار، ألاَ نسمح للمجلس التأسيسي بأن يتحول إلى مجلس تشريعي دون أية ضوابط لمهمته وصلاحياته وللفترة الزمنية التي سيمارس خلالها عمله، المجلس التأسيسي إذن وفق هذا الفهم هو مجلس مهمته "الثورية" وضع دستور جديد للبلاد يحقق مطالب الشعب الدستورية في القطع مع الاستبداد. ماذا يقول خصومهم؟ يقول هؤلاء بأن المجلس التأسيسي هيئة شرعية ثورية مهمتها القطع مع الاستبداد ليس في مفهومه السياسي فحسب ولكن أيضا في بعده الاجتماعي. وهذا المفهوم يتجاوز في ما يترتب عنه من صلاحيات لهذا المجلس ما يفهمه منه أصحاب فكرة الاستفتاء، ويتعداه إلى وضع قوانين ومؤسسات وآليات مراقبة لمسار التحول الديمقراطي "الثوري"، بوصفه فترة انتقالية يجري خلالها التخلص سياسيا، وبصفة فعلية، من هيمنة القوى الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بالبنية الزبونية والعائلية للنظام الاستبدادي السابق. ومن هذا المنظور فإن مهمة المجلس التأسيسي كما يفهمه أصحاب هذا الطرح لن تكون صياغة الدستور فحسب بل التشريع وإفراز السلطة التنفيذية ومتابعتها في تنفيذ البرامج التي انتخبت على أساسها، وهذا يعني أن مدة عمل المجلس التأسيسي لن تقف في حدود السنة كما أوصى بذلك المرسوم الذي نص على إنشائه، وبما أن هذا المجلس سيد نفسه فإنه بإمكانه نظريا أن يستمر إلى ما لا نهاية. المعركة الحقيقية بشأن الاستفتاء لا تدور إذن حول قضايا شكلية، بل حول مفهوم تأسيس الجمهورية الجديدة في حد ذاته: هل الجمهورية الجديدة تعني دستورا ينظم قوانين اللعبة بشكل يسمح للقوى الناشطة حاليا على الساحة بالتأكد من أن قوانين اللعبة ستكون محترمة، بمعنى أن القانون سيطبق على الجميع، وأن لا أحدا سيكون بمقدوره خصخصة أجهزة الدولة لخدمة مصالحه، وأن المعارضة يمكنها بشكل سلس وطبيعي أن تصل إلى السلطة بطريقة شفافة ومقبولة سياسيا وثقافيا، ويمكن كذلك أن تخسرها وفق نفس الشروط، أم أن الجمهورية الجديدة تعني بناء نمط اجتماعي جديد ستترتب عليه إعادة نظر في فلسفة الهرمية الاجتماعية بأكملها، وإعادة توزيع للأعمال والثروات والسلطة، أو على الأقل إعادة صياغة ثقافية عميقة لمجمل القناعات والمعتقدات والممارسات الاجتماعية التي يبرر بها كل مجتمع اللامساواة في العلاقة بالموارد وبالسلطة. إن ما يثير هنا هو أنه بحسب الجواب على هذا السؤال يكون لطول أو قصر المدة الزمنية التي سيشغلها المجلس التأسيسي أهميته الكبيرة في الرهانات السياسية التي يعمل البعض على إخفائها عن الشعب. فتحديد هذه الفترة الزمنية بوقت لا يتجاوز السنة يعني بالنسبة لخصوم الاستفتاء أنه لن يكون بمقدورهم حتى في غياب التجمعيين القدامى ومن معهم- أن يغيروا كثيرا في موازين القوى الاجتماعية-السياسية الراسخة، وأن الاكتفاء بوضع دستور جديد سيسمح "للقوى المضادة للثورة" بالعودة سريعا إلى مواقعها خلال أول انتخابات يأذن بها المجلس التأسيسي، وسيكون قبولهم بمثل هذه اللعبة كمن يقص غصن الشجرة الذي يجلس فوقه، الغصن الذي أعطته له الثورة. أما إعطاء المجلس التأسيسي صلاحيات التشريع وإفراز سلطة تنفيذية والوقت الكافي لتنفيذ سياسة ما، فإن هذا يعني بالنسبة لأنصار الاستفتاء أن المجلس التأسيسي سيُستخدم من أجل تفكيك أو إضعاف مواقعهم الإدارية في مؤسسات الدولة ومواردهم المالية ومجمل شبكاتهم الاجتماعية وربما نهجهم الثقافي، وذلك من أجل منعهم من العودة للسلطة لفترة طويلة أو منعهم من احتكار حق الوصول إلى الموارد. بيد أن هناك مسألة أخرى على غاية من الأهمية يقف حيالها الجميع خائفا ولها علاقة بخلفيات الاستفتاء وبأبعاده الإقليمية والدولية، وهو ما يفسر لماذا يبدو البعض خلال هذا النقاش متشنجا مصرا على موقفه كما لو أنه يواجه مسألة حياة أو موت أو أنه يخدم أجندة غير أجندته، وتتعلق هذه المسألة بالنتائج المحتملة لانتخابات هذا المجلس. ذلك أن نظام الاقتراع الذي اعتمد في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي، وتشرذم القوى السياسية المترشحة له، لا يسمحان لأي حزب بأن يحصل على أغلبية مقاعد المجلس وبتشكيل حكومة هذا إذا ما اتُفق على أن من صلاحيات هذا المجلس أن يفرز سلطة تنفيذية، وهذا يعني أن مبدأ التحالفات الحزبية هو الذي سيكون الحل. غير أن هذه الحالة الواردة جدا تطرح مشكلا عسيرا على جميع الأطراف، وهو مع من سيكون التحالف داخل المجلس التأسيسي؟ ومن أجل تحقيق ماذا (مجرد صياغة الدستور أم تحقيق الأهداف الاجتماعية-السياسية للثورة؟)؟. ولتوضيح هذا المشكل يكفي أن ننظر في السيناريو التالي: في صورة ما إذا حصلت النهضة على المرتبة الأولى لكنها لم تحصل هي ومن معها على غالبية المقاعد فهل ستتحالف مع قوى اليسار، التي تعتبر مشروعها السياسي-الثقافي محافظا إذا لم تنعته بالرجعي، أم مع بقايا التجمع؟ وإذا حدث العكس، أي إذا جاء من يسمون أنفسهم بالتقدميين والحداثويين في المرتبة الأولى ولكنهم لم يحصلوا على ما يكفي من الأصوات كي يمرروا قراراتهم في المجلس، فهل سيتحالفون مع بقايا النظام السابق (الحداثوي هو أيضا ولكن شكليا فقط) في وجه من يرونه محافظا أو رجعيا مثل النهضة (عند ذلك أين الثورة؟)، أم هل سيتحالفون مع هذه الأخيرة، ولكن على ماذا؟ من هذا المنظور تبرز لنا خطورة المرحلة القادمة من الناحية الأمنية -إذ أن عدم الاتفاق داخل المجلس ستكون له نتائجه السلبية الوخيمة على البلاد- وسبب الاهتمام الدولي بها. وربما يفسر هذا تقاطع تفكير بعض السياسيين ومصالحهم مع مصالح بعض هذه القوى الدولية الخائفة من عدم الاستقرار في البلاد، وهو ما يفسر أيضا الاستقطاب الحاد حاليا في الساحة السياسية التونسية بشأن هذه القضية. هل يمكن أن تحل هذه العُقدة "بالبرهان" القانوني دون كشف الخفايا الاجتماعية الحقيقية لهذه المشكلة عن الشعب؟و هل يمكن أن يتجاهل الطرف الرافض للاستفتاء المشاكل الحقيقية التي قد يزج بالبلاد فيها دون أن تكون له القدرة التنظيمية والعقائدية واللوجستية التي تسمح له بالتحكم في هكذا مسار "ثوري"؟. إن الحل في رأيي هو أن تتفق القوى الرئيسية التي لها حظوظ حقيقية في كسب عدد مؤثر من النواب في المجلس التأسيسي القادم على أن يتوقف عمل المجلس على تحقيق أربعة أهداف في وقت محدد لا غير، يجد كل مصلحته في تحقيقها ( يتطلب هذا مغادرة الحكومة الحالية السلطة وتعويضها بحكومة يفرزها المجلس وبقاء الرئيس الحالي في مكانه حتى نهاية فترة عمل المجلس المتفق عليها)، وهذه الأهداف هي التالية: صياغة الدستور، وحل ثلاث مشاكل أرهقت التونسيين وعرقلت المسار الثوري الديمقراطي الذي انخرطت فيه البلاد، وهي مشاكل الأمن والقضاء والإعلام، مع مواصلة تصريف الأعمال الأخرى. وتلتزم هذه القوى أمام الشعب قبل الانتخابات وستحاسب في ما بعد على ذلك- بأنها تتحمل مسؤوليتها في أن تنهي عمل المجلس في فترة متوسطة ومحددة وذلك مهما اختلفت توجهاتها السياسية والفكرية، ذلك أن المسارات السياسية التحولية الكبرى في العالم لم تنجح سلميا إلا بالتوافق المسؤول الذي يعترف بمصالح الآخر وهو ما سيخدم الشعب الذي يتكلمون باسمه.