إن أول ديمقراطية عربية ستكون تونسية. هذا القول أو هذه المراهنة لا ينبغي أن نعتبرها بالضرورة شعارا انتخابيا تلوح به عديد القائمات الانتخابية المترشحة للمجلس التأسيسي الحزبية منها أو المستقلة وإن كانت هذه القائمات تستخدم بقوة هذه الأيام لأهداف انتخابية بالأساس بقدر ما ينبغي، أو يغرينا بالتعامل معه على أنه فرضية معقولة جدا وممكنة جدا لأن منطق الأمور ببساطة يقول ذلك. فتونس هذا البلد الصغير جغرافيا ورغم أنه لا يحتكم على ثروات طبيعية هائلة فإنه عادة ما يلفت الأعناق بقرارات وخيارات وخطوات ثورية لا تخطر حتى على البال في بلدان عربية أخرى أكثر منا مساحة وأكثر منا ثروات وأكثر منا حظوة في العالم. والأمثلة على ذلك عديدة فنحن تقريبا البلد العربي الأول الذي أقدم على ذلك القرار الثوري بإلغاء تعدد الزوجات وهو البلد العربي الأول الذي أصدر دستورا وتونس كانت سباقة في قرار إلغاء العبودية وفي عدد آخر من القرارات الحاسمة والتاريخية. وهذا الأمر ليس وليد الصدفة وهو لم يحدث بشكل تلقائي وعفوي. فما كان لهذا البلد الصغير أن يكون سباقا في اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة بالنسبة لمستقبله لو لم تكن هناك في مختلف الفترات التاريخية أرضية ملائمة لاتخاذ مثل هذه القرارات. ما عهدنا التونسي في مختلف مراحل تاريخه إلا انسانا معتدلا ومسالما وتواقا نحو الأفضل. ما عهدنا التونسي إلا راغبا في تحسين وضعه وفي العيش بسلام. لا تتحكم في التونسي نزعات التطرف في أي اتجاه كان وما عهدناه إلا منفتحا يعمل العقل ويتحلى بالحكمة. ربما خدمت الجغرافيا بلادنا فهي تحتل موقعا مهما على الكرة الأرضية ولكن التونسي منفتح بطبعه، وأرضه أرض ثقافة وحضارة. فتونس وكما هو معروف عرفت حضارات متعاقبة تركت بصماتها واضحة في الأرض وعند البشر. كل مناطق الجمهورية تقريبا وسواء كانت على الشريط الساحلي أو داخل البلاد عرفت ازدهارا حضاريا في حقبة من حقباتها التاريخية وكانت لفترة ما عاصمة أو قطبا اقتصاديا أو دينيا. الانفتاح عند التونسيين هو القاعدة وليس الاستثناء وثقافة التونسيين وانفتاحهم على العالم الخارجي ليس مجرد شعار أو فرضية وإنما حقيقة. ومن الطبيعي جدا أن يكون التونسي وهو ذلك المنفتح على الحياة أن يكون منفتحا على العصر ومن الطبيعي جدا أن يكون وهو المنفتح على التجارب الناجحة في الخارج أن يصبو نحو الديمقراطية وأن يقف في وجه من يحاول عرقلة تطوره الطبيعي نحو حياة ديمقراطية هو أهل لها. نحن اليوم في بلادنا وإذ لا تزال تفصلنا إلا بضعة أيام عن الموعد الحاسم مع التاريخ يوم 23 أكتوبر ذلك التاريخ الذي يتوجه فيه التونسيون لأول مرة إلى صناديق الاقتراع وهم مقتنعون بأننا إزاء تجربة أولى في تاريخنا, تجربة اختيار ممثلينا اختيارا حرا وديمقراطيا فإننا لا نعقد موعدا مع التاريخ كما اتفق ومن لاشيء. التونسيون يقبلون اليوم على مرحلة جديدة في تاريخهم وهم يسترجعون، في خضم استرجاعهم لحريتهم وكرامتهم لحظة الإطاحة بالديكتاتورية، تاريخهم العريق وإرثهم الحضاري الثري. وليس كثيرا على التونسيين اليوم -وهم الذين كانوا وهذه حقائق موثقة وليست دعاية سياسية أو مناورة انتخابية أو عملية تضخيم للأنا- أن يكونوا أول من يعلن نظاما ديمقراطيا حقا في المنطقة العربية. الديمقراطية العربية الأولى ستكون تونسية لحما ودما. لا علاقة للأمر بالتباهي أو محاولة الفوز بسبق على باقي الشعوب العربية التي من حقها بدورها أن تتوق لحياة ديمقراطية وهي أهل لذلك وإنما لأن المسار الطبيعي في تونس ينبغي أن يقود لذلك حتى وإن كره الكارهون. الديمقراطية العربية الأولى ستعلن من تونس بإذن الله وهذا أمر لا محاباة فيه فلا هو بهدية ولا هو بهبة. إنه نتيجة عمل عقول اشتغلت طويلا، ونتيجة جهد سواعد لم تبخل بالعرق، وهو نتيجة صبر وجلد، ونتيجة طموح ونتيجة تحد. فالطبيعة التي لم تجُدْ بالثروة الكبيرة على التونسيين، جعلتهم أكثر إقداما وأكثر وضوحا في الرؤيا وأكثر واقعية. إن ميلاد الديمقراطية العربية الحقيقية الأولى في تونس أكثر من شعار وأكثر من ورقة انتخابية وأكثر من فرضية ضعيفة. إنه حق مشروع، وهو حق التونسيين الطبيعي في حياة عصرية متطورة، إذ هم أصحاب حضارة عريقة ولأنهم كانوا دوما دعاة لثقافة الانفتاح. حياة السايب