منذ خروج النتائج الأولى والمبكرة جدا لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي حتى أصبحت تتهاطل على مختلف وسائل الإعلام وقنوات الاتصال في تونس تصريحات ممثّلي حزب حركة النهضة الذي حاز على النسبة الأعلى من المقاعد بالمجلس المنتخب. ومن المفروض أن هذه التصريحات التي جاءت على لسان قادة الحزب، بدءا من رئيس حركة النهضة مرورا بأمينها العام ووصولا إلى عدد من رموزها، من المفروض أنها تطمئن الناس خاصة من خصومها وكذلك من هؤلاء الذين لم يصوّتوا لحركة النهضة لسبب أو لآخر. من المفروض أن تصريحات ممثّلي النهضة تنزل بردا وسلاما على الناس لأنّها كلها تقريبا تتعهد بضمان الحريات الفردية ومن أبرزها حرية التعبير والمعتقد والإبداع. تتعهد هذه التصريحات كذلك بالحفاظ على مكاسب المرأة التونسية بل ذهب بعض قادتها إلى أكثر من ذلك حيث قالوا أنهم ليسوا فقط مع الإبقاء على حقوق المرأة وإنما مع العمل على تطويرها. لكن السؤال إزاء هو ذلك هل أنّ هذه التصريحات لا تحتمل أكثر ممّا يحمله إيّاها أصحابها؟ أي أنّها قيلت لفترة محدودة ولغاية محدّدة، أم أنّها تعبّر بالفعل عن توجّه وعن مقاربة سياسية. من الصعب في الوقت الحالي أن ننتهي إلى استنتاجات مؤكّدة ما دامت الأمور لم تستقر وما دامت لم تظهر بعد ملامح التشكيلة الحكومية للفترة الانتقالية وما دامت التحالفات الممكنة لم تبرز للعيان ومادامت الساحة السياسية في إطار الفرضيات والاحتمالات لكن هناك أمر يلوح مؤكّدا وقد يكون من المهم الحسم فيه قبل أن تجرّنا الأحداث إلى ما قد لا يخدم مصلحة التونسيين في شيء. صحيح، يلوح خطاب حزب حركة النهضة مطمئنا، وصحيح، نرى أن هذه الحركة تمدّ يدها للجميع تقريبا، ولكن ما يخشى هو أن يكون هناك تقاسم للأدوار غير معلن عنه، أو هو ناشئ عن التغييرات على مستوى موازين القوى بين رموز الحركة وقادتها وإطاراتها وبين قواعدها. ففي الوقت الذي يهرع فيه رجالات القمّة في حزب حركة النهضة إلى خطاب هادئ، وحتى تقدّمي فإن القاعدة تحاول أن تفرض خطابا مناقضا ومخيفا إلى حدّ ما. المسألة أبعد من أن تقف عند مسألة اللّباس حتى وإن لاحظنا أن نمطا من اللباس المستورد والغريب عن التقاليد التونسية ما فتئ يغزو المناطق التونسية ويجد طريقه إلى التونسيين من النساء والرجال، وإنما تهم نمطا من السلوك وعقلية تحتاج ربما إلى وقفة. القواعد التابعة لحزب حركة النهضة لا يبدو أنها واعية في أغلبها بالتوجه الوسطي المعتدل للحركة، ولا تبدو مقتنعة جدا بأن حركة النهضة وإن تستلهم أفكارها وبرامجها من روح الإسلام وهو الدين الذي يدعو إلى العدالة الاجتماعية ويحث على الأخلاق الحميدة، فإنها ليست حركة وعظ وإرشاد وإنما هي حزب سياسي ككل الأحزاب السياسية تتقدم بمشروع للشعب، وأن الناخب يصوّت لها على أساس هذا البرنامج الانتخابي. لا يبدو كذلك أن قواعد حزب حركة النهضة مستعدة للتسليم بأن هذه الانتخابات لا تعني منح الفائز صكا على بياض، وأن الديمقراطية تعني التداول على السلطة بشكل سلمي، وأن الفائز اليوم قد لا ينجح غدا إذا لم يلتزم بتطبيق برنامجه الذي عرضه على الشعب. يحتاج حزب حركة النهضة للتأكيد مرات ومرات إن أراد فعلا أن يطمئن الناس خاصة ممن يخشون على المشروع الحداثي في تونس الذي نشأ منذ بداية عهدنا بالاستقلال، بأن الخطاب عنده سيكون مصحوبا بأشياء ملموسة، ومن بينها مثلا تأطير قواعده. ما نشاهده من سلوك في الشارع ومن محاولات لإشاعة أجواء من التخويف التي تستهدف المرأة بالخصوص من خلال التهديد بالرجوع عن مكاسبها وخاصة منها ما كفلته مجلة الاحوال الشخصية، ليس حكرا على ما نتفق على تسميتهم بالسلفيين وإنما هو نتيجة توقع القواعد بحزب حركة النهضة أن يؤدي فوز هذا الحزب آليا إلى التراجع عن هذه المكاسب وكأنها جاءت بين عشية وضحاها، وكأنه من السهل فسخها بجرّة قلم. ربّما ينتظر حزبَ حركة النهضة عملٌ كبيرٌ على المستوى القاعدي حتى لا تكون فكرة الانصياع للقاعدة في يوم ما حجتهم على من لا يساند مشاريعهم، لأن التونسيين عامة -وليس أنصار النهضة لوحدهم وبحكم السنين الطويلة التي عاشوها تحت سيطرة الحزب الواحد والرأي الواحد- يلزمهم الكثير من الوقت كي تتغلغل عندهم ثقافة التعددية وثقافة القبول بالرأي المخالف. حياة السايب