- هو دكان لبيع الصحف والمجلات بواحدة من الضواحي القريبة من العاصمة كنتُ أعشق واجهته المزدانة بألوان المجلات العالمية ولم أكن أتصور أن يغلق أبوابه في يوم من الأيام. كما كنت أتوجه إليه لأرصد نشر مقالة لي في صحيفة عربية (هجرت مقرها بتونس إثر الثورة). كنت أشعر أنّ المحل جزء مني. للأسف أغلق الدكان أبوابه قبل أشهر. ولما لاحظتُ أنّ العطلة طالت، اغتظتُ في قرارة نفسي من عقلية هذا الزمان ومن المادية المفرطة ومن سياسة «الهمهاما» التي حطمت التقاليد الثقافية الطيبة وحلت محلها، ومن مُتبعي طرق الربح السهل، ومن التخلف الآخر. لكن كانت المفاجأة أكثر من سارة لمّا لمحتُ في يومٍ ما، بعد أكثر من شهر على إقفال المحل الرمز، أنه مفتوح، وأنّ بعض الألوان عادت للظهور على الواجهة البلورية. لكأنّ الحياة قد عادت إلى كيان أُصيب بنوبة حادة كادت تُفنيه. لم أعمد إلى دخول المحل على التوّ لتهنئة الشخص المعتمد به. قد لا يتفهم حركتي؛ قد ينتابه ظنّ غريب لا لشيء سوى لكون مثل هذه الأشياء عادية بالنسبة لتاجر. لكن يوم صادفَ أن مررت من هناك وكنت بحاجة إلى قراءة صحيفة دخلتُ المكان. ولم أتمالك نفسي من إبداء غبطتي للبائع بعودة الأمور إلى سالف عهدها، وبعودة الأنس إلى الشارع بفضل انتهاء «العطلة» الثقافية. وعبّر لي الرجل عن نيته في تطوير المحل ليكون أفضل مما كان. كان الرجل متواصلا فعلا. والمرة التالية التي زرت فيها المحل، ولنفس الغرض، كانت قبل يومين دخلت المحل ولاحظتُ أنّ البائع كان شخصا مغايرا، ولو أني أعرفه هو الآخر من قبل (هم مجموعة من الباعة يعملون بالتناوب). فكان مني أن حرصتُ على المواصلة في التواصل. وبُحتُ له بنفس رسالة الابتهاج التي سبق لي أن عبّرتُ عنها لزميله. فكانت الصدمة. « لم نغلق المحل أبدا»؛ رماها لي كَمَن يصوّب الكرة في مرمى يخاله اللاعب بلا حراسة». «أيظنّ أني سأترك الكرة تمرّ؟؛ فكرتُ في نفسي. «كيف ذلك، ألم يكن المحل مغلقا؟ ولمدة طويلة؟»؛ تصديتُ له بكل براعة طبيعية، موصولة. ولمّا تأكدتُ من أنّ «صاحبي» كان يسبح في بعضِ وَهمٍ لم أقدر على تفسيره حينئذ، أكملتُ كلامي بالقول: «يا صاحبي، لو لم أكن زبونا عندكم، ولو لم أكن أعشق محلكم، لَما نبستُ ببنت شفة...» لقد أصابني صداع على الفور وأحسست بمرارة في فمي وفي قلبي وصُعقتُ بخيبة أمل لم أعرف إن كان المتسبب فيها البائع، أم فقدان مادة الكافيين والسكر في دمي، أم ربما نتائج الانتخابات الأخيرة. ثم حرصا مني على دقّ الحديد وهو ساخن، لم أنتظر احتساء القهوة أو مِلء بطني لأقرر ماهية الخفايا التي عكرت صفوَ وجودي في ذلك الصباح الممطر. درستُ المسألة مرارا وتكرارا، وإذا بي أقع من جديد في شراك الانتخابات. تذكرتُ لوعتي. ولم تكن لوعة منبثقة عن النتائج بِحد ذاتها. فعدم الاعتراف بالواقع الذي أفرزته النتائج لا يليق بمُربٍّ حريص على تمرير الفكر التعددي على الرصيف، وفي الشارع، وفي داخل المحلات العمومية. لكن لوعتي كان مردّها، بالعكس، فقدان الكثير من الناس، وهم ناخبون حقيقيون أو افتراضيون، مثلي ومثل غيري، لثقافة قبول الواقع كما هو. ما فعله ذلك المواطن، ممّا نغّص لي صباحي في ذلك اليوم، أنه لم يضطلع بواقع غلق محلهِ (لأسبابٍ أجهلها ولا ينبغي أن أتذرع بمحاولة معرفتها). ومَن لا يضطلع بالواقع يحكمُ على نفسه بعدم الاضطلاع، لا بقراراته ولا باختياراته ولا بتوجهاته ولا بوجوده حتى. عندئذ أصبحَت مسألة نتائج الانتخابات تمثل مشكلة أكثر من كونها حلا. عندئذ فهمت لماذا انتاب كثير من الناس شك في مَن اختار الحزب كذا أو القائمة كذا أو الحساسية كذا. لذا لهؤلاء، ولأمثالي، أقول: إنّ نتائج الانتخابات واقع، والفائزون فيها واقع، والشروع في الانتقال الديمقراطي في تونس واقع. لكنّ إدراج ثقافة الواقع ضمن فعاليات الواقع، من أحزاب وجمعيات وناشطين ومُوالين ومُعارضين وغيرها من الأطراف المعنية بالحياة التعددية، يبقى واقعا مُغيّبا...